بينما يتصاعد التوتر الإقليمي عقب الضربات الإسرائيلية الدقيقة التي استهدفت منشآت الطاقة الإيرانية، تتجه الأنظار إلى لاعب ثالث لم يُسلّط عليه الضوء بما يكفي: أذربيجان.

فالدولة القوقازية، التي كانت توصف سابقًا بأنها "حليف صامت" لإسرائيل، تجد نفسها اليوم في قلب معركة استراتيجية عنوانها الطاقة والجغرافيا والردع الجيوسياسي.

فهل تتحول باكو إلى القاعدة الأمامية لتل أبيب في محاصرة طهران؟ وهل الحرب على منشآت الطاقة الإيرانية مجرّد تصعيد عسكري أم بداية لإعادة تشكيل خرائط النفوذ في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى؟

 

ضربات الطاقة.. اقتصاد إيران في مرمى النيران
   شهدت الحرب الإيرانية الإسرائيلية تصعيدًا غير مسبوق، حين شنت إسرائيل سلسلة غارات جوية مركّزة على منشآت حيوية داخل إيران.

كان الهدف واضحًا: تدمير البنية التحتية لقطاع الطاقة الإيراني. فقد استُهدفت مصفاة بندر عباس، ومنشآت الغاز في بوشهر، ومحطات تخزين نفطية في الأهواز وكرمانشاه، ما شلّ جزءًا كبيرًا من صادرات إيران النفطية.

لم تكن الضربات مجرد استعراض قوة، بل هجوم اقتصادي صريح هدفه خنق أحد أبرز شرايين الاقتصاد الإيراني في وقت يئن تحت وطأة العقوبات الغربية والانكماش المالي. وتسببت الضربات في صدمة بأسواق الطاقة، وارتفعت أسعار النفط بنحو 13% خلال 48 ساعة فقط، فيما تزايد الحديث عن تهديد الملاحة في مضيق هرمز.

 

أذربيجان على الخارطة.. الممر البديل للطاقة والنفوذ
   في خضم هذا التصعيد، تبرز أذربيجان كبديل محتمل في المعادلة الطاقوية والجيوسياسية.

إذ تشكّل الجمهورية السوفيتية السابقة ممرًا استراتيجيًا لعبور النفط والغاز إلى أوروبا، عبر خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان، الذي يمر من أذربيجان عبر جورجيا إلى تركيا، ثم إلى البحر المتوسط.

ووفقًا لمجلة فوربس، فإن 40% من واردات إسرائيل من النفط قبل الحرب الأوكرانية كانت تأتي من أذربيجان.

لكن دور باكو لم يعد يقتصر على الطاقة فقط.

فالجمهورية الغنية بالنفط تحولت إلى ساحة تنافس خفي بين طهران وتل أبيب، بسبب موقعها الحدودي مع إيران، وارتباطها السياسي والأمني العميق بإسرائيل.

 

تحالف نفطي وتقني.. من جيهان إلى حيفا
   رغم إعلان تركيا عن مقاطعة تجارية شاملة لإسرائيل عقب حرب غزة، لا تزال ناقلات النفط الأذربيجاني تتدفق إلى ميناء حيفا عبر ميناء جيهان التركي، في مفارقة سياسية تعبّر عن تشابك المصالح بين الأطراف الثلاثة.

ووفق بيانات إسرائيلية، بلغت صادرات النفط الأذري إلى إسرائيل في يناير الماضي نحو 523.5 ألف طن بقيمة 297 مليون دولار، بينما سجلت صادرات عام 2023 أكثر من 2.2 مليون طن.

وتعزز هذا التعاون عبر اتفاقيات تكنولوجية واستثمارات متبادلة، شملت بيع إسرائيل قمرين صناعيين لأذربيجان، وتوسيع مشاريع المدن الذكية والبنية التحتية في منطقة كاراباخ.

 

طريق حرير بديل.. إسرائيل تبني ممرها الإقليمي عبر باكو
   منذ سنوات، تعمل إسرائيل بهدوء على بناء ما تسميه الصحافة العبرية "الطريق الإسرائيلي إلى آسيا"، ممر بديل يبدأ من المتوسط ويصل إلى بحر قزوين، متجاوزًا إيران.

وفي هذا الإطار، تلعب أذربيجان دورًا محوريًا، سواء عبر ممر زانجيزور الذي يربطها بتركيا، أو من خلال تحالفاتها التجارية والعسكرية في القوقاز وآسيا الوسطى.

ويُنظر إلى هذا الممر كجزء من مشروع ردع استراتيجي ضد إيران، إذ يسمح بتقويض احتكارها لمسارات التجارة والطاقة، وتعزيز حضور إسرائيل في فضاءات جغرافية لطالما اعتبرتها طهران مناطق نفوذ طبيعي لها.

 

قاعدة أمامية إسرائيلية؟
   مع تعمّق التعاون بين تل أبيب وباكو، بات الحديث عن أذربيجان كـ"قاعدة أمامية" لإسرائيل في صراعها مع إيران أكثر من مجرّد تحليل. فالتقارير العبرية والغربية تتحدث عن منشآت استخباراتية، وتحركات طائرات استطلاع إسرائيلية، وحتى نقل معدّات عسكرية متطورة إلى أراضٍ أذرية قريبة من الحدود الإيرانية، وهو ما تنفيه باكو رسميًا، بينما لا تنكره تل أبيب.

كما يساهم الموقع الجغرافي لأذربيجان المجاور لروسيا وتركيا وإيران، في جعلها نقطة ارتكاز لأي عمليات لوجستية أو أمنية إسرائيلية في الإقليم.

ويفتح التعاون الثلاثي مع تركيا وإسرائيل الباب أمام ما يشبه "تحالف الظل"، الذي يجمع المتناقضات خدمةً لمصالح مشتركة تتجاوز الشعارات السياسية.

 

هل تتغير قواعد اللعبة؟
   إذا كانت حرب غزة قد أطلقت موجة غير مسبوقة من المقاطعة ضد إسرائيل، فإن التصعيد مع إيران يفتح مسرحًا جيوسياسيًا أعقد، يجعل من أذربيجان حجر زاوية في موازين القوى المقبلة.

فالعلاقات الخليجية الصينية المتنامية، وتوجه السعودية للانضمام إلى منظمات كـ"شنغهاي" و"بريكس"، تخلق واقعًا جديدًا تحاول إسرائيل التأقلم معه عبر ممرات بديلة وتحالفات إقليمية غير تقليدية.

ولعل رهانها على أذربيجان ليس فقط استراتيجيًا، بل وجوديًا؛ إذ أن خنق إيران اقتصادياً، وعزلها جيوسياسيًا، لا يتم دون خريطة طرق جديدة يكون باكو فيها المركز