في مشهد لا يخلو من "التفاؤل المصطنع"، خرج رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي ليبشر المصريين بانتهاء حقبة الديون، متعهداً بالوصول إلى أدنى معدلات تاريخية خلال بضع سنوات، ومبرراً الاقتراض الجنوني الذي أغرق البلاد بأنه كان "لبناء دولة حديثة".
هذه التصريحات، التي جاءت احتفاءً بموافقة صندوق النقد الدولي على صرف شرائح جديدة من القروض، تبدو وكأنها محاولة يائسة لتجميل واقع اقتصادي مرير، حيث باتت مصر رهينة لفوائد الديون التي تلتهم أكثر من ثلثي إيراداتها، بينما يئن المواطن تحت وطأة تضخم أكل الأخضر واليابس.
إن حديث مدبولي عن "تغير كبير في شكل الدولة" خلال 3 أو 4 سنوات، يعيد للأذهان وعود "الصبر" المتكررة التي لم تحصد سوى الفقر والغلاء.
فالحكومة التي تتفاخر ببناء الجسور والأبراج، تجاهلت عمداً الاستثمار في الإنسان والإنتاج، وركزت على مشاريع "الشو الإعلامي" التي لا تطعم جائعاً ولا توفر فرصة عمل حقيقية، لتترك الأجيال القادمة أمام فاتورة سداد لا تنتهي.
شماعة "بناء الدولة".. مبررات واهية لاقتراض كارثي
حاول مدبولي تبرير القفزة المرعبة في الدين العام (من 96% إلى 84% من الناتج، وهي نسبة لا تزال كارثية) بأنها كانت ضرورة لسلسلة "استثمارات قاعدية".
لكن الواقع يكشف أن جزءاً كبيراً من هذه القروض ذهب لمشاريع خرسانية غير ذات جدوى اقتصادية عاجلة، أو لمشاريع ترفيهية وإدارية في الصحراء، بينما تم إهمال القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة التي هي الضامن الحقيقي لسداد الديون.
الحديث عن "إسكان المقابر" و"العشش" قبل 2010 كذريعة للاقتراض الحالي هو تزييف للحقائق؛ فالحكومة تبيع وحدات الإسكان الاجتماعي "المدعومة" بأسعار تفوق قدرة محدودي الدخل، وتتحمل الموازنة العامة (أي جيوب دافعي الضرائب) عبء فوائد التمويل العقاري، مما يعني أن الفقراء يدفعون ثمن سكنهم مرتين: مرة كمواطنين ومرة كممولين للديون.
أما "حياة كريمة"، فرغم أهميتها، إلا أنها تُمول غالباً بالقروض، مما يضع مستقبل القرى "الكريمة" في مهب الريح إذا عجزت الدولة عن السداد.
الكهرباء والغاز: فشل في التخطيط أم سوء إدارة؟
تفاخر مدبولي بمضاعفة قدرات إنتاج الكهرباء لتصل إلى 59 ألف ميغاوات، معتبراً ذلك إنجازاً تاريخياً لولا حدوثه لعاشت مصر في ظلام دامس.
لكنه تجاهل الإشارة إلى أن هذا "الفائض" الكهربائي الهائل أصبح عبئاً، حيث تضطر الدولة لسداد التزامات مالية لمحطات "سيمنز" سواء عملت أم لا.
والأخطر هو الاعتراف الضمني بالفشل في ملف الطاقة؛ فمصر التي كانت تصدر الغاز وتطمح لتكون مركزاً إقليمياً، عادت لاستيراده من إسرائيل بصفقات مليارية، وتعاني من انقطاعات تيار في الصيف رغم الفائض النظري في المحطات.
هذا التخبط بين الاستثمار المفرط في التوليد وإهمال تأمين الوقود يكشف عن غياب الرؤية الاستراتيجية، حيث تُنفق المليارات على "الماكينات" وتُترك بلا "وقود"، ليدفع المواطن الثمن مرتين: في فاتورة الكهرباء المرتفعة، وفي انقطاع الخدمة.
سد الديون بالديون: دوامة لا تنتهي
يعد حديث مدبولي عن خفض الدين إلى مستويات غير مسبوقة منذ 50 سنة "نكتة اقتصادية" في ظل الواقع الحالي.
فالأرقام تشير إلى أن الحكومة لا تزال تقترض لسداد فوائد الديون القديمة، وليس للاستثمار أو التنمية.
الفائض الأولي الذي تتغنى به الحكومة (629 مليار جنيه) هو مجرد رقم محاسبي خادع، لأنه لا يشمل فوائد الديون التي تبتلع كل الإيرادات تقريباً.
إن التبشير بـ"مسار تنازلي" للدين بينما تقترض الحكومة 8 مليارات دولار جديدة من الصندوق، ومليارات أخرى من "المرونة والاستدامة"، هو استخفاف بالعقول. الاشتراطات الأربعة للصندوق (فائض أولي، تشديد نقدي، خصخصة، تمديد آجال) تعني مزيداً من التقشف، ورفع الدعم، وبيع أصول الدولة، وهي سياسات جربها المصريون لسنوات ولم تحصد إلا الفقر.
الحكومة تشتري الوقت ببيع المستقبل، وتعد بـ"الرخاء" بعد سنوات، بينما الواقع يؤكد أننا نسير بخطى ثابتة نحو نموذج "الدولة المفلسة" التي ترهن قرارها للدائنين، وتترك مواطنيها يواجهون مصيرهم في مواجهة غلاء لا يرحم.

