في مفارقة صارخة تفضح غياب الدولة التام عن ضبط الأسواق، سجلت أسعار الأرز الشعير أدنى مستوياتها منذ 27 شهراً، مدفوعة بإنتاج محلي وفير ومخزون فائض.
ومع ذلك، لا يزال المواطن المصري يكتوي بنار الأسعار المرتفعة عند تجار التجزئة، حيث يُباع الكيلو بأسعار تصل إلى 40 جنيهاً، في حين أن سعره الحقيقي لا يجب أن يتجاوز 26 جنيهاً وفقاً لحسابات التكلفة.
هذا الانفصام بين "سعر الفلاحين" و"سعر الرف" يكشف عن "مافيا" تتحكم في قوت المصريين، وحكومة عاجزة تكتفي بدور المتفرج، تاركة المستهلك فريسة لجشع التجار وسلاسل الإمداد الفاسدة التي تبتلع أي انخفاض في التكلفة لتحوله إلى أرباح طائلة في جيوبها، بدلاً من تخفيف العبء عن كاهل الأسر المطحونة.
إن التراجع الكبير في أسعار الشعير (بنسبة تصل إلى 38% عن ذروة 2023) كان ينبغي أن يلمسه المواطن فوراً في "طبق الكشري" أو مائدة الغداء، لكن الواقع يؤكد أن "الخير" يذهب لجيوب الكبار، و"الغلاء" هو نصيب المواطن، في ظل غياب أي آلية حكومية فعالة لفرض التسعير العادل أو مراقبة هوامش الربح الجنونية.
فضيحة "الـ 40 جنيهاً": سرقة علنية بغطاء "العلامة التجارية"
تشير الأرقام الرسمية وشهادات أصحاب المضارب إلى أن طن الأرز الأبيض الفاخر (كسر 3%) يخرج من المضرب بسعر لا يتجاوز 24 ألف جنيه، وتكلفة تعبئته 1500 جنيه، ما يعني أن الكيلو المعبأ يجب أن يصل للمستهلك بحد أقصى 26-27 جنيهاً. فكيف يُباع بـ 35 و43 جنيهاً في السوبر ماركت؟
الإجابة تكمن في "فوضى التسعير" التي تركتها الحكومة لشركات التعبئة والعلامات التجارية الكبرى، التي تستغل "ثقة المستهلك" لفرض أسعار احتكارية لا علاقة لها بالتكلفة الحقيقية.
هذه الشركات تشتري الأرز "برخص التراب" من الفلاح والمضارب، ثم تبيعه بأسعار "سياحية" للمواطن، محققة هوامش ربح فاحشة تحت سمع وبصر وزارة التموين وجهاز حماية المستهلك، اللذين يبدو أنهما في "غيبوبة تامة" أو متواطئين بالصمت.
الفارق بين سعر الجملة وسعر التجزئة (الذي يصل لـ 15 جنيهاً في الكيلو) هو "إتاوة" تُفرض قسراً على المواطن، وتذهب لجيوب الوسطاء والسلاسل التجارية الكبرى.
الإنتاج الوفير.. "خير" لم يذقه الشعب
بينما يتفاخر المسؤولون بإنتاج 4.4 مليون طن أرز (بفائض يغطي الاستهلاك لأكثر من 9 أشهر)، يظل هذا الفائض مجرد رقم في البيانات الحكومية لا ينعكس على حياة الناس.
رئيس لجنة الأرز، مصطفى النجاري، يؤكد استقرار الأسعار عند مستويات متدنية (12-14 ألف للطن شعير)، لكن هذا الاستقرار محصور في "المنبع"، بينما "المصب" عند المستهلك يغلي.
هذا الوضع يعكس فشلاً ذريعاً في إدارة منظومة الأمن الغذائي.
فالحكومة التي تنجح في جباية الضرائب من "كشك سجائر"، تفشل في ضبط سعر سلعة استراتيجية مثل الأرز، وتترك الفلاح يبيع محصوله بأسعار متدنية لا تكاد تغطي تكاليف زراعته (أسمدة، طاقة، عمالة)، ثم تترك المستهلك يشتري نفس السلعة بأضعاف ثمنها.
الرابح الوحيد في هذه المعادلة المختلة هو "التاجر الجشع" الذي يراكم الثروات من عرق الفلاح وجيب المستهلك، في ظل غياب "الذراع القوية" للدولة التي تكتفي بالتصريحات الوردية.
الحكومة "الغائبة": هل هي عاجزة أم شريكة؟
السؤال الذي يطرحه كل مواطن: أين الحكومة من هذه المهزلة؟ لماذا لا تتدخل الدولة لشراء الأرز من الفلاحين وتطرحه في المجمعات الاستهلاكية بسعره العادل (25 جنيهاً) لضرب الاحتكار؟
الواقع يشير إلى أن الحكومة انسحبت تدريجياً من دورها كـ"صانع سوق" وضابط للأسعار، وتركت الساحة لآليات "العرض والطلب" المشوهة التي يديرها كبار التجار.
بل إن بعض المراقبين يرون أن الحكومة نفسها تستفيد من هذا الوضع لتعظيم حصيلة ضريبة القيمة المضافة التي تُحسب على السعر النهائي للمنتج.
إن ترك الأسعار "سائبة" بهذا الشكل، في وقت يعاني فيه المواطن من تآكل قدرته الشرائية، هو جريمة سياسية واجتماعية.
فالحكومة التي لا تستطيع خفض سعر كيلو أرز رغم وفرة الإنتاج، هي حكومة فاشلة بامتياز، ولا تملك أي مبرر لبقائها سوى حماية مصالح "قلة منتفعة" على حساب شعب بأكمله يواجه الجوع والغلاء في آن واحد.

