في واقعة كاشفة لحالة التخبط الإداري وغياب الرؤية الاستراتيجية لمواجهة الآفات الاجتماعية، أصدرت محافظة البحيرة قراراً "عنصرياً" بمنع جلوس النساء بجوار السائقين في المواصلات العامة، بدعوى "الحفاظ على الآداب"، قبل أن تتراجع عنه بعد ساعات تحت ضغط السخرية والغضب الشعبي. هذا الارتباك الرسمي ليس مجرد خطأ إجرائي، بل هو انعكاس فاضح لعجز الدولة عن توفير حلول جذرية لكارثة التحرش الجنسي التي حولت وسائل النقل في مصر إلى "ساحات للصيد" تُنتهك فيها كرامة النساء يومياً.
فبينما تكتفي الحكومة بتغليظ العقوبات على الورق، أو إصدار قرارات "منع وعزل" بدائية تعاقب الضحية بدلاً من الجاني، تظل الحقيقة المرة أن الشارع المصري، ووسائل نقله المتهالكة، باتت بيئة طاردة وغير آمنة لنصف المجتمع، وسط تقاعس أمني وتواطؤ مجتمعي يرى في جسد المرأة "مباحاً" في زحام المواصلات.
قرارات "العزل".. عندما تعاقب الدولة الضحية
أثار قرار محافظة البحيرة (الذي وُلد ميتاً) عاصفة من التساؤلات حول العقلية التي تدار بها ملفات المرأة. فبدلاً من تأهيل السائقين، وتركيب كاميرات مراقبة، وتفعيل القانون بصرامة، لجأت السلطة المحلية إلى الحل الأسهل: "إخفاء المرأة".
وفي هذا السياق، تصف الدكتورة هالة منصور، أستاذة علم الاجتماع بجامعة بنها، هذا النوع من القرارات بأنه "تكريس لثقافة الفصل العنصري ضد النساء، واعتراف ضمني بفشل الدولة في فرض سيادة القانون. عندما تمنع المرأة من الجلوس في مكان ما ’حفاظاً عليها‘، فأنت تقول للمتحرش: ’أنت لا تلام، وجودها هو السبب‘. هذا المنطق يشرعن التحرش ويحوله من جريمة جنائية إلى خطأ سلوكي تتحمله الضحية."
وتضيف منصور أن التراجع السريع عن القرار لا يمحو "الخطيئة الفكرية" التي أنتجته، مشيرة إلى أن الحكومة تتعامل مع التحرش بمنطق "رد الفعل" وليس الوقاية، مما يجعل كل الحلول مجرد مسكنات لا تعالج جذور الداء في الثقافة والسلوك.
ميكروباصات الرعب: إحصائيات مفزعة وغياب للرقابة
تشير الإحصائيات الرسمية والبحثية إلى واقع مرعب، حيث تتعرض 60% من النساء للتحرش في الميكروباصات (وسائل النقل غير الرسمية)، وهي النسبة الأعلى مقارنة بالمترو والنقل العام. هذه الأرقام تفضح غياب الدولة التام عن تنظيم قطاع النقل العشوائي، حيث يُترك المواطنون فريسة لسائقين يعملون بلا ضوابط أخلاقية أو قانونية.
يعلق الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية، قائلاً: "الميكروباص في مصر هو ’دولة داخل الدولة‘. غياب الرقابة الأمنية، والفوضى المرورية، والاكتظاظ، كلها عوامل تخلق بيئة خصبة للتحرش. المتحرش يعلم جيداً أنه في مأمن من العقاب داخل هذه العلب المعدنية المزدحمة، حيث يسهل عليه الالتصاق واللمس والهرب. الدولة التي تفشل في تنظيم مواقف السرفيس، كيف ننتظر منها حماية أجساد النساء داخلها؟"
ويرى صادق أن تغليظ العقوبات في 2021 و2023 لم يؤتِ ثماره لأن "آلية التنفيذ" معطلة، فالضحية تخشى الإبلاغ بسبب الوصمة الاجتماعية وتعقيدات الإجراءات في أقسام الشرطة، مما يجعل القانون "حبراً على ورق".
فشل الحلول الأمنية.. وغياب الوعي المجتمعي
يرى خبراء أن اختزال مواجهة التحرش في "الحلول الأمنية" أو القرارات الإدارية المتخبطة هو قصر نظر شديد. فالأزمة متجذرة في بنية الوعي المجتمعي وفي الخطاب الديني والإعلامي الذي ما زال يلوم المرأة على ملابسها وخروجها.
تؤكد الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، أن "الحكومة تتجاهل دور التنشئة والتعليم. نحن نحتاج لثورة أخلاقية تبدأ من المدارس والمنابر الإعلامية، وليس قرارات منع الجلوس بجوار السائق. التحرش هو انعكاس لكبت جنسي، وتدهور اقتصادي، وانهيار لمنظومة القيم. محاولة علاجه بقرارات فوقية هو كمن يحرث في البحر."
وتتفق معها الدكتورة إنشاد عز الدين، أستاذة علم الاجتماع بجامعة المنوفية، التي ترى أن "المرأة المصرية تدفع ثمن الفاتورة الاقتصادية والاجتماعية مرتين: مرة كأي مواطن يعاني من سوء الخدمات، ومرة كامرأة تُنتهك كرامتها لأنها اضطرت لاستخدام مواصلات آدمية. الدولة مطالبة بتوفير نقل عام آمن ومراقب بالكاميرات، وتدريب السائقين، وتفعيل وحدات مكافحة التحرش بشكل حقيقي، بدلاً من إصدار قرارات هزلية تسيء لسمعة مصر وتكرس لدونية المرأة."
في المحصلة، تظل أزمة التحرش في المواصلات وصمة عار في جبين حكومة تدعي تمكين المرأة، بينما تتركها تواجه وحوشاً بشرية في رحلة الذهاب والعودة من العمل، مكتفية بقرارات "تراجعية" تكشف عن تخبط لا يليق بدولة بحجم مصر.

