في خطوة وصفت بأنها "قطرة في محيط الأزمات"، قررت لجنة السياسات النقدية بالبنك المركزي المصري خفض أسعار الفائدة بمقدار 1%، لتصل إلى 27.25% للإيداع و28.25% للإقراض. القرار الذي استقبلته الأسواق بحذر شديد، جاء في وقت يئن فيه القطاع الخاص تحت وطأة ركود تضخمي غير مسبوق، وتكلفة تمويل باهظة شلت حركة الإنتاج والاستثمار.

 

وبينما تروّج الحكومة لهذه الخطوة كبداية لـ"تيسير نقدي" وشيك، يرى خبراء ومراقبون أنها مجرد مناورة تجميلية لا تعالج التشوهات الهيكلية لاقتصاد غارق في الديون، وتديره عقلية الجباية والاقتراض، وليس الإنتاج والتنمية.

 

إن خفض الفائدة بنسبة ضئيلة في ظل معدلات تضخم حقيقية (وليست رسمية فقط) لا تزال مرتفعة، وتكلفة إقراض تتجاوز قدرة أي نشاط إنتاجي على تحقيق الربح، يكشف عن تخبط السياسة النقدية التي تحاول الموازنة المستحيلة بين إرضاء "الأموال الساخنة" بإبقاء العوائد مرتفعة، وبين محاولة يائسة لتحريك مياه الركود الراكدة.

 

مسكنات لعلاج السرطان: الاقتصاد بين المطرقة والسندان

 

يرى الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية، أن القرارات الاقتصادية الأخيرة، بما فيها خفض الفائدة، لا تعدو كونها "مسكنات موضعية" لنظام فقد البوصلة. ويشير عبد الفتاح إلى أن "الأزمة ليست في سعر الفائدة فحسب، بل في فلسفة الحكم التي دمرت القطاع الإنتاجي لصالح الاقتصاد الريعي والمشاريع الفنكوشية. خفض الفائدة بنسبة 1% لن يعيد المصانع المغلقة ولن يطعم الجياع، بل هو محاولة بائسة لتجميل الصورة أمام المراجعين الدوليين، بينما المواطن يدفع ثمن الفاتورة من لحمه الحي."

 

من جانبه، يعلق الدكتور محمد فؤاد، الخبير الاقتصادي والبرلماني السابق، على القرار معتبراً إياه "خطوة متأخرة وغير كافية". ويؤكد فؤاد أن "القطاع الخاص في مصر يواجه خنقاً ممنهجاً. تكلفة التمويل الحالية لا تزال تعجيزية لأي مستثمر جاد. الحكومة تتحدث عن تشجيع الاستثمار، لكنها بقراراتها السابقة وسحب السيولة من السوق لتمويل عجز الموازنة، جعلت من البنوك مجرد خزائن لإقراض الحكومة، وليس لتمويل المشروعات. ما نحتاجه هو تغيير جذري في السياسة المالية والنقدية، وليس مجرد تعديلات هامشية."

 

الصناعة والزراعة: ضحايا "السياسات المتخبطة"

 

على أرض الواقع، تبدو تداعيات الفائدة المرتفعة كارثية على القطاعات الحقيقية. الدكتورة عالية المهدي، العميد السابق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، تحذر من أن "الاستمرار في سياسة الفائدة المرتفعة لفترة طويلة أدى إلى تآكل القاعدة الصناعية. خفض 1% لا يعوض الخسائر الهائلة التي تكبدها المنتجون بسبب ارتفاع تكاليف التشغيل والطاقة والمواد الخام. الاقتصاد المصري يحتاج إلى صدمة إيجابية حقيقية، تتمثل في خفض ملموس للفائدة بالتوازي مع ضبط سعر الصرف وكبح جماح الإنفاق الحكومي السفيه، وإلا فنحن ندور في حلقة مفرغة من التضخم والركود."

 

وفي السياق ذاته، يشير الدكتور هاني توفيق، الخبير الاقتصادي، إلى أن "المشكلة تتجاوز سعر الفائدة لتصل إلى بيئة الاستثمار الطاردة. الحكومة تنافس القطاع الخاص وتزاحمه، وتفرض ضرائب ورسوماً لا حصر لها. خفض الفائدة خطوة في الاتجاه الصحيح نظرياً، لكن عملياً، من سيقترض بفائدة تتجاوز 28% ليبني مصنعاً في ظل تآكل القوة الشرائية؟ نحن أمام حالة من 'الركود التضخمي' تتطلب حلولاً غير تقليدية، وليس مجرد اتباع وصفات صندوق النقد حرفياً."

 

وهم الانتعاش: هل يستفيد المواطن؟

 

السؤال الأهم يظل: هل يشعر المواطن بأثر هذا القرار؟ يجيب الخبير الاقتصادي عبد النبي عبد المطلب بالنفي، مؤكداً أن "أثر خفض الفائدة لن ينعكس على الأسعار قريباً. التجار والمصنعون حملوا المستهلك بالفعل تكاليف التمويل الباهظة السابقة، ولن يخفضوها بمجرد تراجع طفيف في الفائدة. كما أن الحكومة لا تزال تبقي الفائدة على أدوات الدين مرتفعة (25%) لجذب الأموال الساخنة، مما يعني استمرار نزيف الموازنة لسداد فوائد الديون، وهو ما سيتم تعويضه كالعادة من جيوب المواطنين عبر الضرائب ورفع أسعار الخدمات."

 

ويضيف عبد المطلب أن القطاع العقاري والزراعي لن يشهدا انفراجة حقيقية إلا ببرامج تمويل مدعومة حقيقية، وليس بتخفيضات صورية. فالقطاع الزراعي، على سبيل المثال، يئن تحت وطأة ارتفاع أسعار الأسمدة والطاقة، والفائدة البنكية هي مجرد مسمار آخر في نعش الفلاح المصري.

 

في المحصلة، يبدو قرار "المركزي" محاولة خجولة لشراء الوقت في معركة خاسرة ضد الفشل الاقتصادي. فبدون معالجة جذور الأزمة المتمثلة في الفساد، وسوء الإدارة، وتغول الجيش على الاقتصاد، والإنفاق غير الرشيد على مشاريع الواجهة، سيظل خفض الفائدة مجرد رقم في نشرة أخبار، لا يغير من واقع الفقر والركود شيئاً.