في مشهد بات متكرراً في المناسبات السنوية الأخيرة، يحل موسم "الكريسماس" ورأس السنة الميلادية هذا العام على مصر ضيفاً ثقيلاً على جيوب المواطنين، وخفيفاً في حركة البيع والشراء.

 

فرغم الأضواء البراقة التي تزين واجهات المحال في الأحياء التجارية الشهيرة بالقاهرة والإسكندرية، مثل الكوربة وسموحة ومحطة الرمل، إلا أن "البرود" ليس في الطقس فقط، بل يضرب أوصال الأسواق التي تعاني ركوداً غير مسبوق.

 

الزينة حاضرة، وأشجار العيد منتصبة، لكن الزبائن غائبون، أو بالأحرى "متفرجون" يكتفون بالتقاط الصور والرحيل، بعد أن تحولت بهجة العيد إلى "رفاهية" تعجز الطبقة المتوسطة المتآكلة عن دفع فاتورتها.

 

هذا الركود ليس مجرد حدث عابر، بل هو انعكاس مباشر لأزمة اقتصادية طاحنة تعصف بالقدرة الشرائية للمصريين، حيث ارتفعت أسعار السلع الموسمية بنسب تراوحت بين 25% و50% مقارنة بالعام الماضي، وفقاً لرصد ميداني وتقارير محلية .

 

مستويات قياسية من الغلاء

 

قفزت أسعار مستلزمات الاحتفال إلى مستويات قياسية جعلت الكثير من الأسر تعيد حساباتها. فبعد أن كانت شجرة الكريسماس الصناعية متوسطة الحجم تتراوح بين 600 و1000 جنيه، بات سعرها اليوم يتراوح بين 900 و1800 جنيه، فيما تجاوزت أسعار الهدايا البسيطة حاجز الـ300 جنيه.

 

وفي هذا السياق، يرجع متى بشاي، رئيس لجنة التجارة الداخلية بشعبة المستوردين، هذه القفزات السعرية إلى تعقيدات الاستيراد وارتفاع سعر الصرف الجمركي.

 

ويؤكد "بشاي" في تصريحات صحفية أن "فاتورة استيراد سلع الكريسماس، التي تُصنف كسلع ترفيهية أو استفزازية في نظر الحكومة، تخضع لرسوم وقيود مشددة، مما يرفع تكلفتها النهائية على المستهلك بشكل جنوني. التاجر ليس هو السبب الوحيد، بل هو حلقة في سلسلة تبدأ من الشحن بالدولار وتنتهي بفواتير الكهرباء والإيجارات المرتفعة للمحال".

 

ويضيف أن البضائع الموجودة حالياً في الأسواق هي مخزون مختلط بين القديم والجديد، ومع ذلك يضطر التاجر لرفع السعر ليتمكن من شراء بضائع جديدة في ظل تآكل رأس المال العامل.

 

تغيير الأولويات.. "الأكل أولى من الزينة"

 

أمام هذا الغلاء، لجأ المستهلك المصري إلى استراتيجية "البقاء"، حيث تم شطب بند الرفاهيات والاحتفالات من ميزانية الأسرة لصالح الضروريات من مأكل وعلاج.

 

هذا التحول الجذري في السلوك الاستهلاكي يفسره الدكتور علي الإدريسي، الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد بمدينة الثقافة والعلوم، قائلاً: "نحن نشهد تآكلاً حقيقياً للدخل الحقيقي للمواطن.

 

ما يحدث في سوق الكريسماس هو نموذج مصغر لما يحدث في قطاع الملابس والسيارات.

 

المواطن الذي كان يخصص جزءاً من دخله للترفيه، بات ينفقه بالكامل على الطعام والخدمات الأساسية التي تضاعفت أسعارها".

 

ويشير "الإدريسي" إلى أن ظاهرة "إعادة التدوير" باتت سيدة الموقف، حيث تفضل الأسر نفض الغبار عن زينة الأعوام السابقة بدلاً من شراء جديد، مؤكداً أن "الطلب المرن على سلع الكريسماس جعلها أول ضحايا التضخم، فالمواطن يمكنه الاستغناء عن بابا نويل، لكنه لا يستطيع الاستغناء عن الدواء أو رغيف العيش".

 

التجار في مهب الريح.. موسم "للفرجة" فقط

 

على الجانب الآخر من المعادلة، يقف صغار التجار كأكثر المتضررين من هذه الحالة الضبابية.

 

فالموسم قصير جداً (بضعة أسابيع)، وأي بضاعة لا تُباع تتحول إلى "رأسمال ميت" يُخزن للعام القادم مع مخاطر التلف أو تغير الموضة. وتشير التقديرات إلى تراجع المبيعات بنحو 40% في بعض المناطق.

 

يعلق بركات صفا، نائب رئيس شعبة الأدوات المكتبية ولعب الأطفال (التي تندرج تحتها زينة الكريسماس)، موضحاً المأزق الذي يعيشه القطاع: "السوق يعيش حالة شلل شبه تام.

 

القوة الشرائية انخفضت للنصف، والزبون أصبح يسأل عن السعر ويمشي. التاجر الصغير محاصر بين مطرقة الركود وسندان الالتزامات الضريبية والإيجارية.

 

الكثير من التجار اضطروا لتقليل هوامش ربحهم إلى أدنى مستوى فقط لتوفير السيولة النقدية (الكاش) لسداد التزاماتهم، لكن حتى التخفيضات لم تفلح في تحريك المياه الراكدة".

 

ويتفق معه الدكتور رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، الذي يحذر من خطورة ما يسمى بـ"الركود التضخمي".

 

ويقول "عبده": "الأسعار ترتفع والبيع ينخفض، وهذه أسوأ حالة اقتصادية يمكن أن يمر بها سوق. الحكومة مطالبة بضبط الأسواق ومراقبة الأسعار، لكن الأهم هو معالجة جذور المشكلة المتمثلة في التضخم الذي أكل الأخضر واليابس.

 

استمرار هذا الوضع قد يدفع العديد من المحال الموسمية للإغلاق وتسريح العمالة، مما يضيف أعباء بطالة جديدة على كاهل الدولة".

 

في المحصلة، يبدو أن "سانتا كلوز" هذا العام وصل إلى مصر وجرابه فارغ، أو ربما عجز المصريون عن دفع ثمن ما في جرابه، ليمر العيد باهتاً، كاشفاً عن وجه قبيح لأزمة اقتصادية تسرق الفرحة من عيون الأطفال وتزرع الهم في قلوب الآباء.