في وقت تنهش فيه الفيروسات التنفسية صدور المواطنين وتتضاعف طوابير المرضى أمام الصيدليات، تواجه مصر أزمة دوائية طاحنة تكاد تعصف بالأمن الصحي للبلاد. فبينما يلهث البسطاء بحثاً عن شريط دواء للبرد أو حقنة لعلاج السرطان، تخرج حكومة الانقلاب بتبريرات واهية تلقي باللوم على "ثقافة المواطن" الذي لا يقبل البدائل، متجاهلة أن الأزمة الحقيقية تكمن في فشل إداري ومالي ذريع حول الدواء من حق إنساني إلى سلعة نادرة تخضع لقوانين السوق السوداء واحتكار الدولة.
إن اختفاء أصناف حيوية من أدوية الأورام، والسكري، والأمراض المزمنة، بالتزامن مع موجة الوباء الحالي، ليس مجرد "نقص عابر" كما تدعي التصريحات الرسمية، بل هو جريمة مكتملة الأركان تهدد حياة الملايين، وتكشف عن هشاشة منظومة صحية باتت تعتمد على "المسكنات الإعلامية" بدلاً من توفير العلاج الفعلي.
شماعة "ثقافة المواطن".. تبرير العجز الحكومي
في محاولة للهروب من المسؤولية، خرج الدكتور علي عوف، رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية، بتصريحات مستفزة اعتبر فيها أن الأزمة ليست في نقص الدواء بل في "ثقافة المريض" المتمسك بأسماء تجارية بعينها. هذا المنطق يرفضه الخبراء جملة وتفصيلاً، معتبرين إياه التفافاً على الحقيقة المرة.
يعلق الدكتور محمد عز العرب، المستشار الطبي للمركز المصري للحق في الدواء، على هذا الطرح قائلاً: "الحديث عن البدائل والمثائل في ظل اختفاء أصناف كاملة هو نوع من التضليل. المريض لا يرفض البديل رفاهية، بل لأن الكثير من البدائل التي تتحدث عنها الحكومة غير متوفرة أصلاً، أو أن فعاليتها العلاجية مشكوك فيها نتيجة ضعف الرقابة على خامات التصنيع. عندما يختفي دواء للسرطان أو السكر، لا يمكن مطالبة المريض بالبحث عن بديل مجهول، فهذا لعب بالنار في أجساد المرضى."
ويضيف عز العرب أن المشكلة ليست في ثقافة المواطن، بل في "ثقافة الاحتكار" وغياب الشفافية في إدارة مخزون المواد الخام، مما جعل السوق مكشوفاً أمام أي تقلب في سعر الدولار أو أزمة استيراد.
أدوية الأورام: رحلة عذاب في "صيدليات الإسعاف"
تتجلى مأساة نقص الأدوية في أبشع صورها مع مرضى السرطان، الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لخوض رحلات يومية شاقة للوصول إلى "صيدليات الإسعاف" القليلة (48 صيدلية فقط لخدمة أكثر من 100 مليون مواطن). ورغم تأكيدات المسؤولين توفر الأدوية هناك، إلا أن الواقع يكشف عن معاناة لا تنتهي.
يصف الدكتور محمود فؤاد، المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء، الوضع بالكارثي، مؤكداً أن "قصر صرف أدوية الأورام الحيوية على منافذ محددة بدعوى منع الغش هو اعتراف ضمني بفشل هيئة الدواء في فرض رقابتها على السوق ككل. هذا الإجراء يحول المريض إلى متسول يقف في طوابير لساعات طويلة وهو في أشد حالات الضعف، وغالباً ما يعود خالي الوفاض أو يحصل على جزء من الجرعة."
ويرى فؤاد أن هذا المركزية الشديدة تخلق "سوقاً سوداء" موازية، حيث يضطر القادرون لشراء الدواء بأضعاف ثمنه من تجار الشنطة، بينما يُترك الفقراء لمصيرهم المحتوم في انتظار "السيستم" الذي قد يعمل أو يتعطل.
انهيار صناعة الدواء: أزمة دولار أم أزمة إدارة؟
لا يمكن فصل أزمة الدواء الحالية عن السياسات الاقتصادية المتخبطة لحكومة الانقلاب. فارتفاع تكلفة استيراد المواد الخام وتذبذب سعر الصرف أديا إلى تآكل رؤوس أموال شركات الأدوية، ودفع بعضها لتقليل الإنتاج أو وقفه تماماً للضغط من أجل رفع الأسعار.
وفي هذا السياق، يشير الدكتور علي غنيم، عضو شعبة الأدوية، إلى أن "الأزمة هيكلية وتتعلق بتسعير الدواء جبرياً في مقابل تحرير سعر الصرف. الشركات تخسر، والحكومة ترفض دعم الصناعة بشكل حقيقي وتكتفي بالحلول الأمنية أو الإعلامية. النتيجة الحتمية هي توقف خطوط الإنتاج لنواقص حيوية لا بديل لها فعلياً، وليس كما يروج المسؤولون."
ويؤكد الصيدلي هاني سامح، الخبير في شؤون الدواء، أن "ما يحدث هو نتيجة مباشرة لسيطرة مافيا المستوردين والمحتكرين الذين يتحكمون في قوت المرضى، بمباركة صامتة من الجهات الرسمية التي فشلت في توطين صناعة الخامات الدوائية رغم الوعود البراقة طوال السنوات الماضية. نحن أمام منظومة تنهار، والضحية هو المواطن الذي يدفع حياته ثمناً لفشل حكومي لا يعترف بالأخطاء."
في المحصلة، تبدو أزمة الدواء في مصر كجبل الجليد، ما يظهر منه هو نقص في "أدوية البرد"، بينما يغوص الجزء الأخطر في اختفاء علاجات الأمراض القاتلة، وسط حكومة تتقن فن "تسكين" الرأي العام بتصريحات وردية، بينما تترك أجساد المصريين تنهشها الأمراض بلا دواء ولا رحمة.

