في مشهد درامي يعري حقيقة "العرس الديمقراطي" المزعوم، طغى مشهد الانسحابات الجماعية على جولة الإعادة للمرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب، بعدما تحولت العملية الانتخابية إلى ساحة مفتوحة للانتهاكات والتدخلات الأمنية الفجة.

 

فبدلاً من التنافس الشريف على أصوات الناخبين، تسابق المرشحون—حتى المحسوبين على النظام—على "الهروب" من سباق وصفوه بأنه محسوم سلفاً بقوة المال والسلطة لصالح مرشحي "حزب مستقبل وطن". من الخليفة إلى البساتين، ومن طوخ إلى الزاوية الحمراء، توالت بيانات الانسحاب كأحجار الدومينو، مصحوبة باستغاثات لقائد االانقلاب عبد الفتاح السيسي للتدخل ووقف "المهزلة"، في مفارقة تعكس عمق الأزمة السياسية وانسداد الأفق.

 

اللافت في هذه الجولة لم يكن فقط عزوف الناخبين، بل التطور النوعي في آليات الفساد الانتخابي، حيث استُبدلت الأساليب التقليدية بتقنيات "الباركود" و"المحافظ الإلكترونية"، وتحولت لجان الاقتراع إلى "بورصة" لشراء الأصوات تحت حماية أمنية، وفقاً لشهادات المرشحين المنسحبين وتقارير المنصات الحقوقية والإعلامية.

 

"اضطهاد الداخلية".. مرشحون يفرون من "جحيم" الانتخابات

 

بدأت كرة الثلج بالتدحرج من دائرة الخليفة بالقاهرة، حيث أعلن المرشح المستقل محمد سيد عبد العزيز انسحابه في فيديو مؤثر، شاكياً مما وصفه بـ"اضطهاد" مباشر من وزارة الداخلية، وتحديداً مباحث قسم الخليفة، له ولأعضاء حملته قبل يومين من الاقتراع.

 

عبد العزيز كشف في الفيديو الذي نشره أن الشرطة لم تكتفِ بالحياد السلبي، بل تورطت في جمع التوكيلات من مناديبه بالقوة، متهماً شخصاً يدعى "حسن الغندور" باقتحام اللجان والتعدي على أعضاء حملته بالسب والقذف وسحب التوكيلات منهم تحت التهديد، مما جعل الاستمرار في السباق ضرباً من المستحيل.

 


الأمر ذاته، وبصورة أكثر فجاجة، تكرر في دائرة البساتين ودار السلام مع النائب الحالي والمرشح المستقل حشمت أبو حجر، الذي ينافس مرشح "مستقبل وطن" محمود الشيخ. أبو حجر أعلن انسحابه في مقطع فيديو مؤكداً أن قراره جاء "خوفاً على أهله وناسه"، مشيراً إلى قيام الأجهزة الأمنية بالقبض على داعميه وأنصاره بزعم توزيع كروت دعائية، بينما تُرك المجال مفتوحاً لمنافسه لارتكاب كافة المخالفات.

 

وأوضح أبو حجر لموقع "المنصة" أنه تقدم بشكوى رسمية للهيئة الوطنية للانتخابات وعلق نشاطه الميداني، مفضلاً الانسحاب بشرف على المشاركة في "تمثيلية" نتيجتها محددة سلفاً.

 

 

وفي محافظة القليوبية، انضم هشام الزهيري، مرشح حزب "حماة الوطن" عن دائرة طوخ وقها، لقائمة المنسحبين، معلناً في بث مباشر عبر فيسبوك خروجه رسمياً من جولة الإعادة بعدما فوجئ منذ الصباح الباكر بحشود موجهة ومخالفات انتخابية صارخة أمام اللجان، مؤكداً استمراره في خدمة الأهالي بعيداً عن "تلوث" الصناديق.

 

"يا ريس الأجهزة بتتدخل".. صرخة من "قلب النظام"

 

المفارقة الكبرى التي كشفت هشاشة الموقف جاءت من مرشحين يعتبرون أنفسهم جزءاً من النظام. ففي دائرة الزاوية الحمراء والشرابية، لوح المرشح المستقل أيمن فتحي (البرنس) بالانسحاب في بث مباشر، مستهلاً حديثه بالاستغاثة بعبد الفتاح السيسي، قائلاً إنه "كان جزءاً من حملته الانتخابية الرئاسية".

 

البرنس صرخ في الفيديو  مطالباً السيسي بالتدخل لرفع يد الأجهزة الأمنية عن الانتخابات، قائلاً بمرارة: "أنسحب والقنوات المغرضة تستخدمها في التنكيل بمصر وتقول إن فيه مشكلة في الانتخابات".

 


وفي فيديو آخر، فضح البرنس ما وصفه بـ"نقاط الحشد العلني" أمام المدارس وشراء الأصوات تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنية، متهماً منافسه عمر وطني (مرشح "مستقبل وطن" الذي خاض الانتخابات مستقلاً) باستخدام "البلطجة" لمنع أنصاره من التصويت.

 

وهدد بالانسحاب قائلاً: "بناتي بيعيطوا علشان شايفين أبوهم مش قادر يعمل حاجة"، مؤكداً أن ما يحدث هو "قهر للإرادة السياسية" للناس.

 


هذه الانتهاكات وثقتها منصات إعلامية معارضة، حيث نشرت قناة "مكملين" تغريدة تظهر الفوضى والمشادات.

 

 

بينما أكد حساب "صدى مصر" سيطرة الرشاوى على المشهد، في تأكيد على أن الانتخابات تُدار بـ"الهندسة الأمنية" والمال السياسي.

 

"كشوف البركة" وتقنية الـ QR Code.. فساد "ديجيتال"

 

لم تخلُ الجولة من الابتكارات الشيطانية في أساليب شراء الأصوات. ففي دائرة المطرية، التي تشهد منافسة حامية بين النائب الحالي ومرشح "مستقبل وطن" وائل الطحان ومرشح "الجبهة الوطنية" علي الدمرداش والمستقلين، كشف سكان ومحامون عن توزيع "كروت ذكية" على الناخبين تحمل "QR Code" ورقم تسلسلي.

 

الآلية الجديدة تعمل بدقة متناهية: يدخل الناخب اللجنة، يصوت للمرشح المطلوب، ثم يعود ليمسح الكود ويحصل على مبلغ يتراوح بين 200 و300 جنيه عبر خدمة "فودافون كاش" أو قسيمة شراء، في تحويل كامل للصوت الانتخابي إلى "سلعة رقمية".

 

كما أشار علي حميد، مدير الحملة المركزية لحزب العدل، إلى ظاهرة "كشوف البركة"، وهي قوائم معدة مسبقاً بأسماء الناخبين الموالين الذين يتم حشدهم وتوجيههم للتصويت بشكل جماعي. وفي البساتين.

 

كما رصدت تقارير انتشار سرادقات "اعرف لجنتك" التي تحولت لمقار لإدارة عمليات الحشد وتوزيع الأموال، حيث يجلس شباب بـ"لاب توب" لتوجيه الناخبين الذين يتم نقلهم بميكروباصات خاصة لا تحمل أي شعارات، في عملية لوجستية منظمة تديرها جهات نافذة لضمان النتائج.

 

وفي محاولة للتغطية على هذه الفضائح، أعلنت وزارة الداخلية عبر صفحتها الرسمية القبض على أكثر من 60 شخصاً بتهمة الرشوة الانتخابية، كما ورد في هذا المنشور.

 

 

وأصدرت بيانات متتالية حول وقائع في المحافظات

 

وتركز الحملات في القاهرة .

 

لكن المرشحين والشهود يؤكدون أن هذه الإجراءات "انتقائية" وتستهدف فقط أنصار المستقلين والمعارضين، بينما يتمتع "رجال الحزب" بحصانة فعلية تمكنهم من شراء الأصوات وإدارة الحشد تحت حماية الأمن، مما يجعل العملية الانتخابية برمتها "مسرحية عبثية" يدفع ثمنها المواطن من كرامته وحقه في الاختيار.