في مشهد عبثي يجسد مقولة "الساحر ينقلب على سحره"، خرجت حكومة الانقلاب لتصرخ من "حرب الشائعات" التي تدعي أنها تستهدف "إنجازاتها" الوهمية، متوعدة المصريين بمزيد من القمع تحت لافتة "مواجهة الأخبار الكاذبة".
لم يكتفِ النظام بترسانته القانونية التي زج بسببها بآلاف المصريين في السجون بتهمة "نشر أخبار كاذبة"، بل أعلن عن تجهيز تعديلات تشريعية جديدة لفرض المزيد من القيود والعقوبات، وتأسيس "وحدات رصد" في كل وزارة تعمل كعيون أمنية لملاحقة ما ينشره المواطنون.
هذه المسرحية الهزلية تكشف عن حالة الرعب التي يعيشها النظام من غضب شعبي متصاعد، وتفضح تناقضاته الصارخة؛ فهو الذي امتنع عن إصدار قانون "حرية تداول المعلومات" المستحق دستورياً لأكثر من 12 عاماً، وهو الذي بنى شرعيته الزائفة على جبل من الأكاذيب والشائعات ضد أول رئيس مدني منتخب، وهو الذي لا يزال يستخدم أذرعه الإعلامية والأمنية لبث الأكاذيب ضد معارضيه.
إن حرب النظام المزعومة على الشائعات ليست سوى حرب جديدة على "الحقيقة"، ومحاولة بائسة لتكميم ما تبقى من أفواه قبل أن ينفجر بركان الغضب في وجهه.
"من أعمالكم سُلط عليكم".. النظام يحصد ما زرعه من أكاذيب
الأمر الأكثر إثارة للسخرية في شكوى النظام الحالية هو أنه يحصد اليوم ثمار "الشر" الذي زرعه بيديه. فعلى مدار عام كامل من حكم الرئيس الشهيد محمد مرسي، قادت الأجهزة الأمنية وأذرعها الإعلامية والسياسية أضخم حملة شائعات وأكاذيب في تاريخ مصر الحديث. من أكذوبة بيع الأهرامات وقناة السويس، إلى فزاعة "الأخونة" والتجسس وإفلاس الدولة، لم تترك هذه الآلة الإعلامية الشيطانية شائعة إلا وألصقتها بالرئيس وحكومته، ونجحت في تسميم عقول قطاع كبير من المصريين وتعبئتهم ضد الشرعية المنتخبة.
كان الهدف وقتها هو هدم الثقة وتشويه الإنجازات وخلق حالة من السخط تمهد الطريق للانقلاب العسكري. واليوم، وبعد سنوات من انقلابه، يجد النظام نفسه في ذات الموقف؛ حيث ترتد نفس الأسلحة إلى صدره، وتلاحقه الأخبار التي تكشف فشله الاقتصادي وفساده الإداري. لكن الفارق شاسع؛ فحكومة الدكتور هشام قنديل لم تكن تملك الأدوات القمعية لمواجهة تلك الحرب الشرسة، بينما يستخدم نظام الانقلاب اليوم كل ترسانته الأمنية والتشريعية والإعلامية لملاحقة مواطن كتب رأياً على صفحته، في ازدواجية معايير فاضحة تكشف عن الطبيعة الاستبدادية لهذا الحكم.
"قانون تداول المعلومات".. من أداة للشفافية إلى أداة للتعتيم
إن أول المسؤولين عن انتشار الشائعات هو النظام نفسه الذي يتعمد حجب المعلومات عن الشعب. فمنذ صدور دستور 2014، يمتنع النظام عن إصدار قانون "حرية تداول المعلومات" الذي تنص عليه المادة 68 من دستوره، وهو القانون الذي كان كفيلاً بالقضاء على 90% من الشائعات لو صدر بنوايا صادقة. فغياب المعلومة الرسمية الموثقة هو البيئة الخصبة لنمو الأقاويل والتكهنات.
الآن، تدعي الحكومة أنها بصدد إعداد مشروع قانون جديد، لكن كل التجارب السابقة مع تشريعات هذا النظام تؤكد أنه سيصدر قانوناً مقيداً يفرغ النص الدستوري من مضمونه، ويضع شروطاً تعجيزية للحصول على المعلومة، ويحول "حق المعرفة" إلى "منحة" من السلطة. لو كانت الحكومة جادة حقاً في نواياها، لتبنت مشروع القانون الذي أعدته نقابة الصحفيين بعد حوار مجتمعي واسع، أو لأفرجت عن مشروع القانون الذي أعده وزير العدل المستشار أحمد مكي عام 2013، والذي كان سيرفع ترتيب مصر على مؤشر الشفافية العالمي 11 درجة دفعة واحدة، لكن الانقلاب العسكري وأده في مهده. إن النظام لا يريد شفافية، بل يريد "تعتيماً مقنناً" يستطيع من خلاله إخفاء كوارثه الاقتصادية وصفقاته المشبوهة.
"الحقيقة" هي أكبر شائعة في نظر النظام
المفارقة الكبرى هي أن الجزء الأكبر مما تسميه الحكومة "شائعات" ليس سوى "حقائق" مؤلمة ومسربة من داخل أروقة الحكم نفسه. فعندما تتسرب معلومة عن نية الحكومة رفع أسعار الوقود أو الخبز، تسارع أذرعها الإعلامية لنفيها ووصفها بـ "شائعات من أهل الشر تستهدف إثارة البلبلة". لكن بعد أسابيع قليلة، يتفاجأ المصريون بأن "الشائعة" قد أصبحت واقعاً مريراً على الأرض. هذا السيناريو تكرر عشرات المرات، من تعويم الجنيه إلى بيع أصول الدولة، مما أفقد المواطن أي ثقة في بيانات الحكومة الرسمية.
لقد أصبح "النفي الحكومي" في عرف المصريين هو "التأكيد" بعينه. وبدلاً من مواجهة هذه الحقائق بشفافية ومصارحة الشعب، يختار النظام سياسة "الإنكار" ثم يلقي باللوم على "مروجي الشائعات"، في محاولة للهروب من مسؤوليته عن الفشل. وفي الوقت ذاته، تواصل أجهزته الإعلامية والأمنية ضخ الشائعات والأكاذيب ضد المعارضة بكافة أطيافها، وتطلب من رؤساء التحرير تكثيف حملات التشويه، مما يؤكد أن هذا النظام يعيش ويتنفس على "الكذب"، ويرى في "الحقيقة" أكبر خطر يهدد وجوده. إن القوانين الجديدة لن تمنع الشائعات، بل ستزيدها، لأنها ستدفع الصحفيين للاكتفاء بنشر البيانات الحكومية الكاذبة، مما سيجعل المواطن يبحث عن الحقيقة في أي مصدر آخر مهما كان.

