في فصل جديد من فصول الإبادة الجماعية التي لا تقتصر على القصف والقتل المباشر، بل تمتد لتشمل التجويع الممنهج والحرمان من أبسط مقومات الحياة، كشفت تصريحات أوروبية رسمية عن الوجه القبيح للاحتلال الإسرائيلي الذي يواصل إحكام خناقه على قطاع غزة.

 

مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية تقف مكدسة عند معبر رفح، ممنوعة من العبور بأوامر إسرائيلية تعسفية، وتحت ذرائع "الاستخدام المزدوج" التي بلغت حد السخرية السوداء، لتشمل منع أكياس النوم بسبب "لونها" والكراسي المتحركة بسبب "عجلاتها".

 

هذه الممارسات ليست مجرد إجراءات أمنية كما يزعم الاحتلال، بل هي سياسة عقاب جماعي مقصودة، تهدف إلى كسر إرادة الفلسطينيين عبر تحويل الشتاء القادم إلى سلاح فتاك، في انتهاك صارخ لكل المواثيق الدولية ولاتفاق وقف إطلاق النار الذي لم يكن سوى حبر على ورق أمام غطرسة المحتل.

 

ذرائع "الاستخدام المزدوج": سادية تتجاوز المنطق

 

لم تكن تصريحات مفوضة المساواة في الاتحاد الأوروبي، حاجة الحبيب، مجرد وصف لواقع لوجستي، بل كانت شهادة إدانة دولية تفضح عبثية المعايير الإسرائيلية. عندما يُمنع دخول "أكياس النوم" لأن لونها لا يروق للضباط الإسرائيليين، وتُحظر "الكراسي المتحركة" التي يحتاجها آلاف المصابين ومبتوري الأطراف بحجة أن عجلاتها قد تشكل خطرًا أمنيًا، فإننا لسنا أمام إجراءات تفتيش، بل أمام سادية محضة تتلذذ بمعاناة الضحية.

 

هذا التصنيف الفضفاض والمطاط لـ"المواد ذات الاستخدام المزدوج" هو السلاح الذي تشهره إسرائيل لإفراغ قوافل الإغاثة من مضمونها، وتحويلها إلى مجرد أرقام إعلامية بلا فاعلية حقيقية على الأرض. إن منع هذه المواد الأساسية في ظل تدمير البنية التحتية والمنازل، يعني حكمًا بالإعدام البطيء على آلاف النازحين الذين يفترشون العراء، خاصة مع تحذيرات المسؤولة الأوروبية من أن "الشتاء قادم"، وأن المساعدات يجب أن تدخل بشكل كامل وفوري لا بالقطارة.

 

خرق اتفاق وقف إطلاق النار: الكذب الإسرائيلي المستمر

 

رغم أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي بدأ سريانه في 10 أكتوبر الماضي، بوساطة مصرية قطرية أمريكية، نص صراحة على إدخال 600 شاحنة إغاثة يوميًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في القطاع المنكوب، إلا أن الواقع يؤكد أن إسرائيل لم تلتزم يومًا بهذا التعهد. الاحتلال يتعمد المماطلة في عمليات التفتيش المعقدة والبطيئة، ويختلق العقبات الإدارية والأمنية لتقليص عدد الشاحنات إلى أدنى حد ممكن، في استراتيجية واضحة لإبقاء غزة في حالة انهيار دائم.

 

المنظمات الإغاثية والدولية أكدت مرارًا أن الرقم المتفق عليه (600 شاحنة) لم يتحقق، وأن ما يدخل لا يمثل سوى "نقطة في بحر" الاحتياجات الهائلة لقطاع دُمرت مرافقه الحيوية ومستشفياته ومخابزه. هذا التنصل من الالتزامات يعكس استهتارًا إسرائيليًا كاملًا بالوسطاء وبالمجتمع الدولي، ويؤكد أن الاحتلال لا يفهم لغة الاتفاقيات، بل لغة القوة والفرض فقط.

 

تعتيم إعلامي ودبلوماسي: منع الشهود من دخول مسرح الجريمة

 

لم يكتفِ الاحتلال بمنع المساعدات، بل يسعى جاهدًا لطمس معالم جريمته عبر عزل غزة عن العالم الخارجي. ويتجلى ذلك بوضوح في منع المسؤولة الأوروبية "حاجة الحبيب" نفسها من دخول القطاع، ورفض إعادة فتح مكتب المفوضية الأوروبية هناك. هذه الإجراءات تهدف إلى منع أي توثيق دولي محايد للكارثة الإنسانية، وتغييب الشهود الدوليين الذين قد ينقلون صورة مغايرة للرواية الإسرائيلية المضللة.

 

إسرائيل تريد أن تمارس تجويعها وحصارها في الظلام، بعيدًا عن أعين الدبلوماسيين والمراقبين، لتستمر في ترويج أكاذيبها حول "تسهيل المساعدات" بينما الواقع يصرخ بأن المعابر مغلقة بأوامر عسكرية، وأن شاحنات الغذاء والدواء تتحلل تحت الشمس في رفح، بينما يموت الأطفال جوعًا وبردًا على بعد أمتار قليلة خلف الأسوار.

 

إن تكدس مئات الشاحنات عند معبر رفح ليس مجرد أزمة لوجستية، بل هو جريمة حرب مكتملة الأركان، وشاهد حي على تواطؤ عالمي وعجز دولي يسمح لإسرائيل بالتحكم في شريان حياة مليوني إنسان، ومنع الهواء والماء والدواء عنهم، في سابقة لم يشهد التاريخ الحديث مثيلًا لوحشيتها.