سامح راشد
باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط
لا بلد في العالم يخلو من الجرائم والانحرافات، بما فيها الأخلاقية عمومًا والجنسية خصوصًا، إذ لا وجود واقعيًا للمدينة الفاضلة. وتختلف معدّلات الجرائم من بلد إلى آخر، كما تتفاوت نسب الجرائم وأشكال الخروج عن القانون بحسب طبيعة كل شعب. وفي البلدان الإسلامية والعربية، تتراجع نسب الجرائم الجنسية بشكل عام، غير أن ما شهدته مصر في الأسابيع الماضية يكشف تزايد نمط معيّن من الانحرافات الجنسية، هو التحرّش بالأطفال والاعتداء عليهم. فبعد واقعة اعتدى فيها عاملون في إحدى المدارس "الراقية" على مجموعة من التلاميذ، توالت بلاغات وشكاوى عن وقائع مشابهة في مدارس أخرى.
وبالرغم ممّا في تلك الوقائع من دلالات سيّئة تشير إلى التراجع الشديد في حالة "الإشباع الجنسي" لدى المصريين، فإن وقوع الاعتداءات على أطفال وتكرارها في سياقات متعدّدة يحمل مؤشّرات سلبية على انحدار سلوكي وقيمي في المجتمع المصري؛ إذ لا تتعلّق الجرائم المُرتكَبة بممارسات جنسية طبيعية خارج الإطار الشرعي القانوني، وإنما هي ممارسات شاذّة بصورة مُركَّبة من ذكور ضدّ ذكور غير بالغين.
في واقعة تلك المدرسة، لم يكن مرتكبو جرائم الاعتداء على الأطفال جنسيًا فردًا واحدًا، بل أفراد عدّة من العاملين في المدرسة، فالمسألة ليست شذوذًا فرديًا أو خللًا سلوكيًا عند شخصٍ بعينه. والأدهى، مشاركة سيّدة من العاملات في تلك الجرائم، عبر استدراج الأطفال وتوصيلهم إلى المعتدين. ليس الخلل هنا مرتبطًا بشبق جنسي أو انحراف سلوكي عند تلك السيّدة، وإنما بافتقادها قيم الشرف والعفّة واحترام براءة الأطفال وآدميتهم، فضلًا عن تغلغل "الحقد الطبقي" على أولئك الأطفال وأسرهم الثرية. وتلك النظرة الدونية ليست مقصورة على بعض العاملين في مدارس "راقية"، لكنّها منتشرة عمومًا بين الطبقات الفقيرة، وبخاصّة مع اتساع الفجوة في مصر بين أثرياء يزدادون ثراءً وفقراء يغرقون فقرًا.
وتتحمّل إدارات تلك المؤسّسات التي يفترض أنها تربوية مسؤولية كبرى في وقوع تلك الحوادث المؤسفة، بتجاهل المعايير الأخلاقية الضروري توافرها لدى كل من يعمل في مدرسة أو حضانة، وكذلك بعدم رقابة أداء العاملين وتحرّكاتهم، فضلًا عن غياب التواصل ومتابعة الحالة النفسية للتلاميذ والمدرسين والعاملين. لكن رغم ذلك كلّه، ما يحدث في مصر من "انفلات" جنسي هو جزء من كل يُعزى إلى اهتزاز منظومة القيم وتفكّك الرابط المجتمعي، سواء كانت مرجعيته دينية أو تقاليد متوارثة أو قوانين صارمة، والنتيجة انفلات سلوكي تتنوّع تجلّياته ومظاهره من إسفاف غنائي وابتذال سينمائي وبذاءة لفظية إلى انتهاكٍ للمحرّمات وتجاوزٍ للحدود الأخلاقية.
وتلعب وسائل الإعلام والاتصال دورًا خطيرًا ومباشرًا في تعزيز ذلك التدهور وتوسيع نطاقه، فقد اختفت المواد الدينية من قنوات التلفزيون تمامًا، وانحسرت البرامج الاجتماعية التقويمية وحلّت محلّها برامج الأزياء والتجميل والتخسيس والطبخ. وجاءت وسائط التواصل لتطبع المجتمع على الانحلال، ليعتاد انتهاك الحرمات ولا يستهجن العري والمشاهد المثيرة والألفاظ البذيئة. وبعد أن كانت المدارس والمساجد تلعب دور الرادع والحاجز الواقي للمراهقين والشباب من الانفلات والفساد، لم تعد المدرسة تُربّي أو حتى تُعلِّم، وانتهى الدور المجتمعي للمسجد، واقتصر على أداء الطقوس الشكلية للصلوات.
تلك هي الأسباب الحقيقية لانتشار حالات الاعتداء الجنسي. وسرعان ما سنكتشف انتشار كوارث أخرى نتيجة الأسباب نفسها؛ منها زنا المحارم والمثلية، وربّما ممارسة الجنس مع الحيوانات. وكلّها تداعيات للكبت الجنسي المرتبط بصعوبات الزواج مقابل ارتفاع معدّل الهرمونات وإشعال الغرائز. ولا سبيل إلى الخروج من دائرة الشبق والانفلات والجريمة إلا بإحياء المرجعية الروحية والوازع المجتمعي، ففيهما الضمانة لعودة انضباط السلوك وحضور الأخلاق والقيم.

