بعد جيل الصحابة، حمل التابعون "المشعل" بأمانة واقتدار، مقدمين نماذج حية في الامتثال للتوجيهات القرآنية والنبوية التي تأمر بتبني هموم الناس وقول الحق أمام السلطان. لم تكن "العدالة الاجتماعية" في قاموسهم مجرد شعار، بل كانت ممارسة يومية كلف بعضهم حياته، ورفعت آخرين إلى مراتب "سادة العصر".
في هذا التقرير، يستعرض الشيخ أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء في المغرب في كتابه الإسلام وهموم الناس، سير ثلاثة من كبار التابعين الذين جسدوا هذا المنهج، محولين العلم إلى عمل، والموعظة إلى موقف.
1. أبو مسلم الخولاني: "سيد التابعين" ومروض السلاطين
أبو مسلم الخولاني (عبد الله بن ثوب)، الذي وصفه الداراني بأنه "سيد التابعين وزاهد العصر"، كان رجلاً بأمة. لم ترهبه سطوة معاوية بن أبي سفيان، بل كان له ناصحاً أميناً، ومقوماً شجاعاً.
موقف "الأجير":
في مشهد مهيب، دخل أبو مسلم على معاوية وسط حاشيته، وبدلاً من أن يحييه بـ "أيها الأمير"، بادره قائلاً: "السلام عليك أيها الأجير". وحين حاول الحاضرون تصحيحه، أصر قائلاً: "دعوه، فهو أعرف بما يقول". ثم وعظه موعظة بليغة، مذكراً إياه بأن الحاكم ما هو إلا أجير استرعاه الله على هذه الأمة، فإن عدل كوفيء، وإن جار عوقب.
درس في "إطفاء الغضب":
وفي موقف آخر، حين حبس معاوية العطاء عن الناس، قام أبو مسلم في المسجد خطيباً في وجه الخليفة، قائلاً بجرأة: "يا معاوية، إنه ليس من كدك، ولا كد أبيك، ولا كد أمك". غضب معاوية ونزل عن المنبر، لكنه سرعان ما عاد مغتسلاً، مطبقاً وصية النبي ﷺ في إطفاء الغضب بالماء، ومعترفاً بصدق أبي مسلم: "صدق أبو مسلم، إنه ليس من كدي.. هلموا إلى عطائكم".
توفي رحمه الله في زمن يزيد بن معاوية، تاركاً إرثاً من الصدع بالحق.
2. سعيد بن جبير: العالم الذي زلزل عرش الحجاج
سعيد بن جبير، العالم الرباني الذي قال عنه ميمون بن مهران: "مات وما على الأرض أحد إلا وهو محتاج لعلمه". لم يكن علمه حبيس المحاريب، بل كان سلاحاً في وجه الطغيان.
المواجهة الدامية:
خرج سعيد مع "أهل الجماجم" ضد الحجاج بن يوسف الثقفي، محرضاً الناس على قتال "أهل الجور" الذين أماتوا الصلاة واستذلوا المسلمين. وحين سيق إلى الحجاج مقيداً، دار بينهما حوار تاريخي، واجهه فيه سعيد بحقيقته دون مواربة: "إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله، ترى من نفسك أمورا تريد بها الهيبة، وهي التي تقحمك في الهلاك".
قتله الحجاج سنة 94هـ، لكن دم سعيد كان لعنة طاردت الحجاج حتى موته، وكان يردد في منامه: "مالي ولسعيد بن جبير!".
3. مالك بن دينار: "أمين الخونة" وضمير الفقراء
مالك بن دينار، العابد الزاهد الذي لم تمنعه عبادته من الاشتباك مع قضايا الناس اليومية. كان يرى أن السكوت عن الظلم شراكة فيه.
"أمناء الخونة":
له مقولة شهيرة تلخص فلسفته في التعامل مع أعوان الظلمة: "كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة". كان يرى أن كل من يعين الظالم ولو بشطر كلمة فهو شريك في وزره.
قصة "العشار" والكوز:
سعى يوماً في حاجة رجل حُبست سفينته عند "عشار" (جابي ضرائب ظالم). وحين طلب منه العشار أن يدعو له ولأعوانه، نظر مالك إلى "كوز" يجمعون فيه أموال المكوس الحرام، وقال بتهكم لا يخلو من مرارة: "قولوا للكوز يدعو لكم! كيف أدعو لكم وألف يدعون عليكم؟". كان يدرك أن دعوة المظلوم أقوى من دعوة الولي. توفي رحمه الله سنة 130هـ.
خاتمة: إن سير هؤلاء التابعين ليست قصصاً للتسلية، بل هي "دستور عمل" لكل مصلح. لقد أثبتوا أن "الدين" ليس مجرد طقوس، بل هو "نصرة للمستضعف" و"كلمة حق" تقال في وجه من يملك السوط والسيف. لقد رحلوا وبقيت مواقفهم منارات تضيء طريق الأحرار في كل زمان.

