في حلقة جديدة من مسلسل القمع الأمني الذي لا يفرّق بين مسلم أو مسيحي، إسلامي أو علماني، واصل نظام قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي سياسته المعهودة في سحق كل صوت مستقل، معتمدًا على الاتهامات الجاهزة ذاتها التي باتت شعار المرحلة: «الانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة».
وقد جاءت قرارات تجديد الحبس لكل من الباحث والصحفي إسماعيل الإسكندراني والكاتب القبطي هاني صبحي، لتؤكد أن السجون في مصر لا تمتلئ بالإرهابيين، بل بأصحاب الرأي والفكر والضمير.
الإسكندراني: خبير سيناء الذي أقلق الرواية الرسمية
خضع الصحفي والباحث إسماعيل الإسكندراني لتحقيقات في القضية رقم 6469 لسنة 2025، التي وُجهت فيها إليه اتهامات باستخدام منصات إلكترونية لنشر أفكار قالت التحريات—دون تقديم دليل—إنها تدعم تنظيمات إرهابية.
المفارقة أن الاتهامات جاءت على خلفية تحليلاته ودراساته عن الوضع في سيناء، وهي المنطقة التي تحاول السلطات منذ سنوات إحاطتها بجدار من الصمت والتعتيم، وتحويلها إلى "صندوق أسود" يمنع الاقتراب منه إعلاميًا وحقوقيًا.
الإسكندراني سبق أن قضى نحو 7 سنوات في السجن بسبب تقاريره عن انتهاكات الجيش في سيناء، قبل أن يخرج في 2022، ليُعاد اعتقاله مجددًا وكأن الإفراج عنه لم يكن إلا هدنة مؤقتة ضمن سياسة القمع المتجدد.
هاني صبحي: روائي قبطي متهم بالانضمام للإخوان!
أما المفارقة الأكبر فتتجلى في الكاتب والروائي القبطي هاني صبحي، الذي جرى اعتقاله من منزله ليلاً على يد قوة بملابس مدنية دون إذن قضائي، ثم صُودر هاتفه، وأُغلقت صفحته على "فيسبوك"، قبل أن يُعرض أمام نيابة أمن الدولة العليا التي وجّهت إليه الاتهامات ذاتها، بما فيها "الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين".
اتهام روائي قبطي بالانتماء للإخوان يكشف عبثية الجهاز الأمني، وافتقاده لأبسط منطق قانوني أو عقلاني. لا شيء يهمّ لدى السلطة سوى إلصاق أي تهمة بأي شخص انتقد النظام أو كتب سطرًا لا ينسجم مع روايتها الرسمية.
وفقًا لمحاميه، ترتبط القضية بمنشورات انتقد فيها صبحي الأوضاع السياسية، علمًا بأنه معروف بإبداعاته الأدبية، خصوصًا مجموعته «روح الروح» (2024) التي تناولت مأساة غزة، وروايته «على قهوة في شبرا» (2020) التي تناولت واقع الطبقة الوسطى بعين أدبية حادة.
المثقفون في مرمى الأمن: من يكتب يُعتقل
قرار تجديد الحبس للرجلين لم يمر مرور الكرام، بل فجّر موجة غضب في الأوساط الثقافية والحقوقية، التي رأت فيه استمرارًا ممنهجًا في استهداف المثقفين، وتجفيف المجال العام من أي أصوات خارج السرب.
الاعتقال لم يعد حكرًا على النشطاء أو السياسيين، بل بات شبحًا يطارد كل من يكتب أو يحلل أو يطرح أسئلة محرجة.
النظام الذي يخاف الكلمة أكثر من الرصاصة، يرى في كل مقال، وكل رواية، وكل تحليل سياسي خطرًا يهدد "الأمن القومي"، أي أمن النظام لا أمن الوطن.
عدالة غائبة وقانون معطّل
تجديد الحبس خارج نطاق العدالة أصبح واقعًا ثابتًا في عهد السيسي. القضايا تُفتح دون أدلة، والتحقيقات تتم دون محامٍ، والتهم تُنسخ من ملف لآخر.
لا تهمّ الديانة، ولا الخلفية الفكرية. ما يهمّ فقط هو إخراس كل من لا يُصفق. حتى حق المتهمين في التواصل مع عائلاتهم ومحاميهم صار محل تفاوض، بينما تُمدد الحبس الاحتياطي بلا سقف، وكأن السجن صار حكمًا أبديًا بلا محاكمة.
لا فرق بين إسلامي ومسيحي.. ولا بين رواية وتقرير
ما يعيشه الإسكندراني وهاني صبحي هو رسالة جديدة من نظام لا يفرّق بين المعارضين:
الكل متهم، والكل خائن، والكل إرهابي، حتى لو كان قبطيًا أو باحثًا أكاديميًا.
لا فرق بين صحفي يكشف الحقيقة، وروائي يحاكي الواقع، ففي مصر السيسي القلم صار جريمة، والفكر تهمة، والاختلاف خيانة.
دولة تُجرّم المعرفة.. وتؤمن فقط بالصمت
بينما يُعاني الباحثون والمثقفون خلف القضبان، يُروّج النظام لصورة زائفة عن "الحوار الوطني" و"توسيع المجال العام"، في مفارقة سريالية تعكس كمّ الأكاذيب التي تروَّج خارج أسوار السجون.
قضية الإسكندراني وصبحي ليست استثناءً، بل جزء من منظومة قمع شاملة، تعتبر أن حماية الدولة تعني إسكات المجتمع بالكامل.
وفي ظل نظام يرى أن الكلمة الحرة أخطر من أي سلاح، لا يمكن لأي مثقف أو مفكر أن يشعر بالأمان، طالما كانت حريته تُهدد أمن المستبد.

