في مشهد يلخص عمق التدهور الخدمي في المحافظات، يعيش آلاف المواطنين داخل المساكن الحكومية بمحافظة كفر الشيخ منذ منتصف أكتوبر الجاري حالة من الغضب والاستياء، بعد أن تحولت مساكنهم التي أنشئت باسم “الحياة الكريمة” إلى بؤر للمعاناة اليومية. فبين طفح الصرف الصحي وانقطاع المياه والغاز والكهرباء، تبدو وعود المسؤولين كأنها مجرد صدى في الفراغ لا يجد طريقه إلى التنفيذ.
في مناطق مساكن الأربعين وسخا وميت علوان بمدينة كفر الشيخ، تتجسد الأزمة بأوضح صورها. مياه الصرف تفيض في الشوارع الداخلية منذ أسابيع، ناشرة الروائح الكريهة ومخاطر صحية جسيمة، بينما تتآكل أساسات المباني تحت وطأة الرطوبة والتسربات المستمرة. الأهالي الذين طرقوا أبواب مجلس المدينة وشركات المرافق لم يجدوا سوى ردود معتادة: "الخطة قادمة"، و"الأعمال تحت الدراسة"، ووعود لا تُنفذ.
تقول إحدى السيدات من سكان سخا الجديدة: "نعيش وسط بحيرات من مياه المجاري، أطفالنا لا يستطيعون الذهاب إلى المدارس، ولا أحد يتحرك لإنقاذنا". شهادتها تعكس حال مئات الأسر التي وجدت نفسها محاصرة بين الإهمال الإداري والعجز الحكومي، بعدما تحولت مساكنهم إلى بيئة خطرة على الصحة العامة.
الأزمة لا تتوقف عند الصرف الصحي؛ إذ يشتكي السكان من انقطاع المياه لأكثر من 24 ساعة يوميًا، مما أجبر كثيرين على حمل الجِرار البلاستيكية من مناطق بعيدة أو شراء المياه بأسعار باهظة من سيارات خاصة. ويرى الأهالي أن سبب الانقطاع هو تهالك الشبكات وضعف الضغط، في ظل غياب الصيانة الدورية وتجاهل شكاواهم المتكررة. “ندفع فواتير ولا نجد خدمة”، يقول أحد السكان بمرارة، مشيرًا إلى أن الأحياء الشعبية دائمًا ما تكون آخر أولويات الحكومة.
أما الغاز الطبيعي، الذي يفترض أنه أحد مظاهر التطوير، فصار مصدرًا جديدًا للأزمة. فالانقطاعات المفاجئة دون إنذار حوّلت حياة المواطنين إلى معاناة يومية، خاصة مع ارتفاع أسعار أسطوانات البوتاجاز. ويقول أحد الأهالي: "الشركة لا ترد، ولا أحد يفسر سبب الانقطاع، بينما نضطر لدفع أضعاف السعر لتأمين بديل مؤقت"، مضيفًا أن الانقطاع المتكرر في الشتاء قد يعرض كبار السن والأطفال للخطر.
وفي الوقت نفسه، يشكو السكان من انقطاعات متكررة في التيار الكهربائي تصل إلى عدة مرات يوميًا، مسببة تلف الأجهزة وإفساد الأطعمة وتعطيل مضخات المياه في الأدوار العليا. “كل ما نملك مهدد بالتلف، ولا توجد فرق صيانة في الليل أو العطلات”، يقول أحد المواطنين، متسائلًا عن جدوى ما تتحدث عنه الحكومة من “تحسين جودة الخدمات”.
ورغم أن مصدرًا بمجلس مدينة كفر الشيخ تحدث عن خطة لإعادة تأهيل شبكات الصرف والمياه “خلال الفترة القادمة”، إلا أن المواطنين فقدوا الثقة في مثل هذه التصريحات التي تتكرر كل عام بلا أثر. فالأعذار ذاتها تتكرر: نقص الاعتمادات، انتظار الموافقات، أو بدء التنفيذ “قريبًا”. بينما الواقع يزداد سوءًا، والوعود تظل حبرًا على ورق.
في المقابل، تصاعدت دعوات من نشطاء محليين على مواقع التواصل لتشكيل لجنة ميدانية من وزارة الإسكان لمعاينة الكارثة على الطبيعة، ومحاسبة المقاولين والجهات التي نفذت الشبكات الرديئة قبل تسلمها رسميًا. ويرى هؤلاء أن الأزمة ليست وليدة اليوم، بل نتيجة سنوات من الإهمال وسوء الإدارة وغياب الرقابة والمساءلة.
أهالي كفر الشيخ لم يعودوا يطالبون برفاهية، بل بحقهم في خدمات إنسانية أساسية: مياه نظيفة، صرف صحي آمن، كهرباء مستقرة، وغاز دون انقطاع. حقوق كفلها الدستور ووعدت بها الحكومة مرارًا، لكنها بقيت في إطار الشعارات. فحين تفشل الدولة في تأمين أبسط مقومات الحياة، يصبح الحديث عن التنمية “رفاهية زائفة”.
اليوم، يقف سكان المساكن الحكومية في كفر الشيخ كصوت احتجاجي على تآكل الثقة بين المواطن والدولة. ومع استمرار الأزمات دون حلول ملموسة، يزداد الشعور بأن المواطن البسيط هو دائمًا الحلقة الأضعف في معادلة لا تضعه في الحساب. وحتى تتحرك الجهات الرسمية بجدية، تبقى معاناة هؤلاء المواطنين عنوانًا جديدًا لفشل الإدارة المحلية في مصر، وإدانة صريحة لسياسات التجميل الإعلامي التي تخفي وراءها واقعًا قاسيًا يتنفس الإهمال يوماً بعد يوم.