منذ عام 2014 وحتى عام 2023، شهدت المنظومة الصحية في مصر تراجعًا كارثيًا في عدد الأسرة الحكومية على يد حكومات العسكر، حيث انخفض العدد من نحو 126,757 سريرًا إلى 83,017 سريرًا فقط، أي بنسبة فقدان تصل إلى 35% منإجمالي الطاقة الاستيعابية للمستشفيات الحكومية. هذا التراجع انعكس مباشرة على نصيب كل ألف مواطن من الخدمة الصحية، حيث هبط المؤشر من 1.7 سرير لكل 1000 مواطن إلى0.79 سريرًا فقط، وهو رقم لا يقترب حتى من الحد الأدنى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية.
 

أسباب الانهيار: سياسات الإهمال والخصخصة

لا يمكن قراءة هذه الأرقام بمعزل عن السياسات الحكومية التي اتسمت بالإهمال الممنهج للقطاع الصحي العام، مقابل فتح الباب على مصراعيه أمام القطاع الخاص والاستثمارات التجارية في مجال الطب.
فبدلاً من زيادة أعداد المستشفيات الحكومية وتطوير بنيتها، اتجهت الدولة إلى بيع الأراضي المخصصة للصحة أو تحويل بعض المستشفيات إلى مشروعات تجارية أو إدارية، تحت مبررات "تطوير الخدمات" أو "إعادة الهيكلة".

في الوقت نفسه، تم تقليص الإنفاق الحكومي على الصحة، ما انعكس في تدني رواتب الأطباء والممرضين، وهجرة الكفاءات إلى الخارج، وغياب أي خطط جادة لزيادة عدد الأسرة أو تعويض الفاقد.
 

المعاناة اليومية للمواطنين
النقص الحاد في عدد الأسرة جعل المستشفيات الحكومية عاجزة عن استيعاب المرضى، خاصة في أوقات الأزمات الصحية أو انتشار الأمراض الموسمية. وأصبح مشهد المرضى المكدسين في الممرات أو المنتظرين لساعات -بل وأيام- لحين توافر سرير أمرًا معتادًا.

وفي حالات الطوارئ، يجد المواطن نفسه أمام خيارين أحلاهما مر: إما الانتظار في طابور طويل للحصول على سرير حكومي، وهو ما قد يعرض حياته للخطر، أو التوجه إلى مستشفى خاص وتحمل تكاليف باهظة تفوق قدرته المادية.
 

تآكل الحق الدستوري في الصحة

الدستور المصري ينص على أن لكل مواطن الحق في الرعاية الصحية المتكاملة، لكن الواقع يكشف أن هذا الحق أصبح مجرد نص على الورق.
فالدولة، التي يفترض أن تكون الضامن الأول لتقديم الخدمة، انسحبت تدريجيًا من دورها، وتركت المواطنين تحت رحمة السوق والمنطق التجاري البحت.

القطاع الصحي الخاص لا يهتم سوى بالقدرةعلى الدفع، ما يعني أن الفقراء ومحدودي الدخل هم الضحية الأولى لتراجع عدد الأسرة الحكومية.
 

أزمات متراكمة ومخاطر مستقبلية
مع تزايد عدد السكان – الذي تجاوز 105 ملايين نسمة – يصبح التراجع في عدد الأسرة الحكومية جريمة مضاعفة، إذ أن الطلب على الخدمات الصحية في ازدياد، بينما العرض في تراجع حاد.
وفي ظل غياب خطط واضحة لزيادة عدد الأسرة أو بناء مستشفيات جديدة بالمناطق الأكثر احتياجًا، فإن المستقبل ينذر بكارثة صحية أكبر.

وتزداد الخطورة مع الأزمات الصحية المفاجئة، مثل الأوبئة أو الكوارث الطبيعية، حيث ستكون المستشفيات الحكومية غير قادرة على التعامل مع الأعداد الكبيرة من المصابين، ما قد يؤدي إلى انهيار المنظومة بأكملها.
 

شهادات من أرض الواقع
في جولات ميدانية بمستشفيات القاهرة الكبرى، اشتكى المرضى من طول فترات الانتظار، وعدم وجود أسرّة كافية حتى في الأقسام الحرجة.
وأكد بعض الأطباء أن الإدارة تضطر أحيانًا إلى وضع أكثر من مريض في نفس السرير أو رفض استقبال حالات جديدة لعدم وجود أماكن.

أحد المرضى قال بمرارة: "جئت بأبي بعد أزمة قلبية، لكن المستشفى الحكومي رفض استقباله لعدم وجود أسرّة، اضطررنا إلى إدخاله مستشفى خاص ودفعنا مبلغًا لم نكن نملكه، واضطررنا للاستدانة"، وهي قصة متكررة في كل المحافظات.
 

بدائل الدولة الفاشلة
بدلاً من مواجهة المشكلة عبر زيادة التمويل الصحي وبناء مستشفيات جديدة، لجأت الحكومة إلى حلول سطحية مثل التوسع في "الشراكة مع القطاع الخاص" أو طرح بعض المستشفيات للاستثمار الأجنبي، وهي سياسات تزيد من خصخصة الصحة وتهميش الفقراء.

كما ركزت الدولة على مشروعات استعراضية مثل إنشاء مستشفيات فاخرة في العاصمة الإدارية تخدم فئة محدودة، بينما تركت المستشفيات العامة في المحافظات تنهار من الداخل.

وفي النهاية فإن تراجع عدد الأسرة الحكومية في مصر بنسبة 35% خلال 16 عامًا هو مؤشر خطير على إهمال الدولة المتعمد للقطاع الصحي العام.
هذه الأزمة لا تعني فقط نقصًا في الخدمات، بل تمس حق المواطن في الحياة والكرامة.

في ظل استمرار هذا النهج، فإن المواطن المصري مهدد بأن يجد نفسه بلا سرير في المستشفى الحكومي، وبلا قدرة على العلاج في المستشفى الخاص.
إنه مسار يقود إلى كارثة صحية واجتماعية، ويكشف بوضوح أن حكومة العسكر تضع صحة المواطن في آخر قائمة أولوياتها، مفضلة سياسات الجباية والخصخصة على حماية حياة الناس.