د. فتحي أبو الورد


معايير التقييم للدول أو للأشخاص الذين مثلوا الدول لابد أن تكون محل اتفاق بين الباحثين فى التراث الإسلامى ، حتى نستطيع أن نصل إلى نتيجة ، وإلا ، إذا اختلفا فى الأصول ، فإن اختلافنا فيما تؤدى إليه من نتائج سيكون أكثر اختلافا .
 
ومن هذه المعايير التى تعد مبادئ إسلامية عامة ، قامت عليها الأدلة الشرعية : مدى احترام هذه الدول ، أو هؤلاء الأشخاص الذين حكموا دولا للإنسان من حيث كونه إنسانا ، جعله الله تعالى أكرم مخلوق فى عالم الوجود ، كما جاء فى قوله تعالى :" ولقد كرمنا بنى آدم " الإسراء 70 ، وتقديرهم للحرية ، وإقامتهم للعدل بين الناس ، وسعيهم للعمل من أجل سعادة الإنسان وراحته ، وتحقيق إنجازات حقيقية فى هذا الصدد ، ممثلة فى التعليم والصحة ، والصناعة ، وغير ذلك مما يعد فى أعراف الدول - من منظور تقييمى - نهضة وتقدما .
 
ذلكم لأن البناء الأعظم الذى يجب أن تقوم عليه الحضارة ، هو بناء الإنسان ، وأن المحور الرئيس الذى ينبغى أن يكون مرتكز التقييم لأى حقبة تاريخية أو معاصرة هو الإنسان .
 
إننا نعظم قيم العدل ونلتقى مع كل من يعظمها ، حتى ولو كان غير مسلم ، ونرفض كل من ينتهك قيم العدل ، ويصادر الحريات ، ويسلك طريق الظالمين حتى ولو كان مسلما .
 
وقد شهد النبى صلى الله عليه وسلم حلفا قبل بعثته لنصرة المظلوم ، ورد الظالم ، وشارك فيه مع غير مسلمين ، لأنهم يعظمون قيمة إنسانية وهى رفض الظلم ، وقال فى ذلك : " لقد دعيت فى دار عبد الله بن جدعان إلى حلف ، لو دعيت بمثله فى الإسلام لأجبت " .
 " لقد كانت دولة عمر مضرب الأمثال فى التاريخ لأنها اتخذت العدل مظلة ، واحترام الآدمية معتقدا ، وحريات الناس عنوانا ، وإسعاد الرعية منهجا ، والرحمة بالضعفاء مذهبا وخلقا .
 
لماذا يشيد كثير من الناس اليوم ببريطانيا ، ويعتبرونها بلد الحريات ، وقبلة المضطهدين ؟ لأنها سنت قوانين تحمى الضعفاء والفارين من الطغيان والظلم،وتمنحهم وثيقة لجوء سياسى ، وتحترم الحريات ، وتغيث الملهوف ، وتنصر الضعيف ، وتقف إلى جوار المضطهد .

لقد كانت دولة عمر مضرب الأمثال ، رغم أنها كانت من الحالات القليلة فى حياة الدول والأمم التى وقعت فيها مجاعة ، ومع ذلك لم تنل هذه الأزمة من شخصية عمر بوصفه قائدا للدولة ، لأن الناس رأوا أن ما حل بهم لم يكن من كسب يديه ، ولا بسبب فساده ، أو انغماسه فى متع الحياة الدنيا ، أو انشغاله عنهم بخاصة نفسه ورغباته ، ولكنهم رأوا أن مظلة عدله كانت تسع الجميع ، وأن بذله لنفسه من أجله سعادتهم كان محل اتفاق ، وأن سعيه فى رد الجوع عنهم كان مثالا تحتذيه القادة ، حتى إنه جاع معهم ، وعاش كما عاشوا على أنصاف البطون وأرباعها ، ولم يهنأ حتى انكشفت الغمة ، وانقشعت الظلمة .