بقلم: أحمد الجارون
....
في داخل كل ذاتٍ صندوقٌ مغلقٌ، مثقل بذكرياتٍ كانت آملة فصارت أليمة، ومتى تنزوي النفس في ركن خلوتها تمسك بكسرةٍ من حكايات الماضي فتمسحها وتربت عليها ببسمة أو دمعة، ولكلِّ منا أمكنة وأسرار يعبث بها ويقلبها فتطيب خواطره، وبعض الذين فارقونا بجسدهم يعيشون في ثنايا الفؤاد هانئين، فقد حجزوا غرفتهم في أعماقنا دون إيجار، أو ربما كان الدفع مقدماً، ومع الذكريات يحلو العزف على أنصاف الكلمات، وتتمة ما تمنيناه كاملا، وحذف ما عكر صفو اللقاء.
استشعرت معنى القهر في خلوتي الضيقة، أخذتني سنة من نوم، فّإذا بالباب عنوة يفتح فيرتطم ببدني دون استئذان، وبصوت لا يقل عن دفع السياط يقول: هات ما كتبت؛ فاعتذرت أني ما شرعت في الكتابة وسأنفذ حال ما يمكنني القبض على القلم أو الإمساك بالورقة، فتعجلني كمن يبحث عن سبب أو مبرر لضربي، وقد فهمت من طلبه أنه لا يريد لي نوماً أو راحة، أو هو نوع من العذاب النفسي الذي ينفذه حسب الأوامر العليا.
أبحث عن القلم وأتحسس الورقات في الظلام الدامس، وهنا بدأت أتعرف عن مكونات غرفتي، فإذا بعلبة من صفيح يبدو أنها لقضاء الحاجة، فحمدت الله عليها، وإسفنجة أو بقايا منها خشيت الاقتراب منها بادئ الأمر، فحاجتي للنوم لا تحتاج لفراش أو وسادة، وأنا الذي يضنيني النوم على وسادة واحدة، فلا أقل من اثنتين، لكن يبدو أني سأنامُ مفترشاً قهري وملتحفاً آلامي.
قبل ما يقرب من نصفِ قرنٍ وعلى مسافة تزيد عن ألف كيلو من مسقط رأسي ومثلها...قذف بي بعد تحقيقٍ أخذ النهار وزلفاً من الليل في زنزانة تسع نصفَ آدمي، لا تغتالها مذقةُ ضوءٍ؛ ولا يفضُّ بكارتها ومضة نور، أقصى حلمك أن تجلس فيها القرفصاء أو يزيد قليلا، ثم رمى سجاني بحزمةٍ أوراقٍ وقلم مهدداً وواعداً: أريدك أن تسطر حياتك مذ ولدتك أمك إلى الآن، لم أعترض وأنى لي ذلك؟
رغم ظلام المكان الدامس، فلقد كانت عيوني متورمة لا أستطيع فتحها، وما كان النور يغني في عينٍ مغلقة شيئاً، فتحسستُ الأوراق والقلم وشرعت أكتب عبر ظلمات بعضها فوق بعض... تجمد القلم وأبى نطقاً، وطفتُ بخيالي عند بداية الزمن لديَّ... أول سطر أتذكره كنتُ أنتعل أديمَ الأرض في حواري وأزقة قريتي التي كانت آمنة، يستر جسدي أطمارٌ مهترئة تفضحُ فقري، وتفصحُ عن قلة ذات اليد، أما طرف كُمِّي فلم أره يوماً إلا سميكاً مما يحمله من أوضار، أجلس جوار أمي ساعات طوال وهي أمام التنور تجهز الخبز برائحته العبقة أستجديها قرشاً أشتري قلماً أو كراسة لأكتب واجب المعلم فأتقي صفعاته أو هراوته، ويا لسعد طالعي وحسن حظي لو وجدت بقايا قلم وقع خلال الزحام عند فرحة مغادرة المدرسة، هكذا كان ضيق الحال لأغلب الناس، وفي أيام المدرسة يقسم اليوم بين حجرة الدراسة والحقل، فالدراسة واجبة والعناية بالحقل أوجب، ومتى أعلنت الاختبارات نهايتها يحجز أبي لي عند مقاول الأنفار كي أعمل باليومية بقروش معدودات، فلا مكان للترف في حياتنا، فحياتك غالباً بين كدحِ الحقل وكدر المدرسة؛ ويتخللهما النوم أو بضع ساعات من السمر قبله، وراح خيالي يتذكر ابنة الجيران وأنا أرقبها من كوة بنافذتي، ويحمر وجهي خجلاً حين تذكرها أمي، أو ترسلني أستعير عارية من بيتهم، فلا أريدها أن تراني بملابسي الرثة، وعلى صوت الشيخ رفعت مع تباشير الصباح، وحانوت عمي عليٍّ الذي يبيع الطعمية يُفتح على سورة يُوسف، أو صوت فيروز الذي أسعد به دون فك شفراته يأتيني من طرفٍ شجي، أشتاقُ خرزات سبحتك يا أبي تحمل رائحة عرقك، هنا شعارهم يا أبتاه...وتحيتهم فيها انتقام.
وأيقنتُ منذ ثلاثة عقود فيك يا وطني تُسجنُ المروءة والحرية في الكتب، وقدري ...أكتب أنا في ظلام السجن، وحين عاد وقف الكلام كسكينةٍ بحلقي... مددتُ يدي بورقةٍ كتبتُ فيها: أنا إنسانٌ، متى أعيشُ الأنسنة؟