شعبان عبد الرحمن
 
فجأة اختفي الاستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام السابق لجماعة الإخوان من مستشفي المعادي حيث كان يرقد مريضا مرضا شديدا ..لم يعلم ذووه إلي أين ذهبت به سلطات الانقلاب فتركت المجال واسعا للشائعات والتخوفات علي حياته .. ليدخل الرجل الذي يشارف عمره علي التسعين عاما في دائرة جرائم الاختفاء القسري التي شاعت في مصر هذه الأيام.. إنها الوحشية في الانتقام والفجور في الخصومة .. ولا حول ولا قوة إلا بالله . 
 
وتلك كلمات قليلة من صفحات حياته الحافلة بالكفاح .. كتبتها من قبل عن لقاء دار بيني وبينه عام 2004م حول أبرز محطات حياته ...
 
تذكرت ذلك اللقاء بينما اختفي الرجل وهو يصارع المرض خلف قضبان الطغاة  ودون أن يتذكره الإعلام ولم تتذكره منظمات حقوق الانسان المحلية أو الدولية ولم يلتفت إليه بالطبع الإعلام العالمي ولا بيانات البيت الأبيض التي تخرج أسرع من الصاروخ من أجل الصهاينة وعبدة الشيطان . تذكرت ذلك اللقاء للتذكير بقضيته التي تمثل عنوانا لأبشع جريمة في حق الإنسان ضحيتها أكثر من أربعين الف معتقل من خيرة أبناء مصر يتقدمهم  قادة الإخوان وبينهم رجال كبار وأطفال صغار ونساء وشباب ولا حول ولا قوة إلا بالله .
 أربعة وسبعون عاما قضاها مع تلك الجماعة المباركة  ظل خلالها في مقدمة الصفوف قريبا من مؤسسها الامام البنا ثم المرشدين الخمسة الذين سبقوه ...ثم المرشد السابع الذي تلاه الدكتور محمد بديع  ، شارك خلالها في مواقف واحداث مهممة ومحورية وعاش عهودا مختلفة من عهد الملكية حتي اليوم .
 
 شارك في الإعداد لعمليات الجهاد في فلسطين وأشرف علي معسكرات الجهاد ضد الاحتلال الانجليزي لمصر واحتك بقادة ثورة يوليو وكان له معهم تجربة ثرية .
 
أتوقف فقط  عند فصل واحد من حياته -  كما حكاه لي – وهو كفاحه ضد الاحتلال الانجليزي ، فقد كان من قادة الاحتجاج ضد الاحتلال الانجليزي منذ كان طالبا في المرحلة الثانوية . 
يقول عن تلك المرحلة : " في سن الثانية عشرة من عمري  تعرفت علي  دعوة الاخوان و كان للإخوان يومها نشاطا ضخما في المدارس ...وبمجيء وزارة صدقي باشا سنة 1947م سعى لعقد معاهدة مع الإنجليز، فتفجرت المظاهرات الضخمة في أنحاء (مصر) بقيادة الإخوان، وكانوا يقبضون علينا ويضعوننا في الأقسام، وقد وضعوني في قسم «الوايلي» بالقاهرة، وصدر قرار بفصلي من جميع المدارس الأميرية في انحاء القطر المصري ، وأصر صدقي باشا - علي الرغم من صداقته  لوالدي - على ألا أبقى بالقاهرة، مقابل الإفراج عني، فأخذني والدي ـ يرحمه الله ـ وعدنا إلى البلد، ومكثت هناك  حتى سقطت حكومة صدقي باشا في مارس 1947 م . 
 
وعن كفاحه ضد الاحتلال الانجليزي يتساءل :  "هل يتصور أحد أنه في عام 1951م كنا نقيم معسكرات في قلب الجامعة وندرب الطلاب بالذخيرة الحية على مقاومة الاحتلال؟! وقد كان كل أساتذة الجامعة يرحبون بما نقوم به أملا في تحرير مصر من الانجليز.. الذين تركوا القاهرة نهائياً تحت ضغط المظاهرات الحاشدة وتمركزوا في منطقة قناة السويس. يومها تحملت الجامعة  المسؤلية لأن الادارة كانت وطنية والسلطات تغاضت تماما . وقد أقمنا تلك المعسكرات لاننا أردنا أن نكون عمليين أكثر في مقاومة الاحتلال ، وكنت يومها قائدا لمعسكر جامعة إبراهيم (عين شمس حالياً). 
 
وسأسرد لك  قصة تبين مدى رجولة رجال الجامعة آنذاك مع الطلبة....  فقد وضعنا بعض الأهداف للمعسكرات، وكان منها : محو الأمية العسكرية لدى الشعب المصري المحتلة أرضه .. وكان لا يقوى على الصمود ومواصلة التدريب إلا القليل، وهم الذين كانوا يذهبون للقتال في القناة ضد الاحتلال الإنجليزي ، ولكن التدريب كان مفتوحاً ومتاحاً للكل، وظهر من شباب الجامعة، رجال من غير الإخوان أعتز بهم حتى الآن، بل ومن النصارى، فقد كان معنا أحد النصارى الميسورين، وكانت لديه سيارة فخمة، وكان يصر على أن يقود لي هذه السيارة بنفسه.. كما أن سيدة ميسورة (اسمها قوت الدمرداشية) ـ صاحبة مستشفى الدمرداش الذي تحول بعد ذلك إلى كلية للطب ـ أرسلت لي سيارة، وكنت معروفاً جداً آنذاك.. ولما جاء ابنها ـ وكان طالباً بكلية الطب ـ وقال لي: هذه السيارة هدية لك، قلت: أما لي فلا، وأما للمعسكر فنعم،  فردت علي والدته قائلة: لاستعمالك الشخصي في المعسكر ، فقلت: وهو كذلك، وبعد نهاية المعسكر أعدتها اليهم  مع خطاب شكر.
وكان يرأس جامعة إبراهيم (عين شمس حالياً) أستاذ جليل، هو د. محمد كامل حسين، كبير جراحي العظام في الوطن العربي، وكان يشاركنا جهادنا، وقد أرسل لي عميد كلية الحقوق د. عثمان خليل وكنت طالباً بها ـ بعد أن أنهيت الدراسة في كلية التربية الرياضية - وقال لي: ياعاكف.. مدير (رئيس) الجامعة يريد تنظيم حفل افتتاح للمعسكر حتي يحضر، فقلت له: أنت رجل قانوني، ونحن في هذا المعسكر داخل حرم الجامعة نعد ناسا خارجين على القانون (وكان أحد لا يستطيع دخول المعسكر... لا احتلال ولا أمن ولا غيره، كما يحدث الآن) فإن كنتم تريدون أن تشاركونا في المسؤولية فمرحباً.. ثم أرسل لي رئيس الجامعة مرة أخرى عميد  كلية الهندسة ثم قائد حرس الجامعة بنفس الرسالة ، ثم أرسل لي رسالة بالحضور فذهبت إليه، وكان رجلاً محترماً فقال لي: إنه لشرف عظيم ـ يابني ـ أن أشارككم جهادكم.
 
فهل تجد مثل ذلك الآن؟
 
ذلك جانب وطني مهم من حياة الرجل المليئة بالتضحيات الكبيرة .. لكن المكافأة من نظام مصر العسكري للأستاذ عاكف وأمثاله من الوطنيين الشرفاء كان التنكيل والسجن والتعليق علي أعواد المشانق وذلك عين ما يسعد به الكيان الصهيوني ..ويكفي انه سجين كل العصور في سبيل كلمة الحق والدعوة الي الله .. فقد سجنه عبد الناصر وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم للمؤبد يومها أشيع عنه أنه مات من شدة التعذيب ولكن الله كتب له الحياة علي يد " روبير " اليهودي الذي جمعه به السجن وكان يصب قطرات من الماء فم فم الاستاذ عاكف حيث كان يصارع الموت.. يهودي سجين ضن بشربة ماء كاملة عليه  لكنه تكرم بقطرات ماء كانت سببا في استمرار الحياة  وتلك مشيئة الله  وسبحان الذي يخرج الحي من الميت بقدرته .
 
 إن كل معاني الشرف والإباء تقف احتراما لهذا الرجل ولكل من معه ولكل إخوانه من المؤسسين لدعوة الإخوان .. الذين أفنوا شبابهم وشيخوختهم في سبيل الدعوة إلي الله دون كلل أو تعب أو تهاون أو تفريط ..وسيعلم المغيبون يوما أن هؤلاء قدموا ويقدموا وسيقدموا أغلي ما يملكون ( حياتهم ) لتحيا تلك الأمة عزيزة كريمة بإذن الله سبحانه وتعالي وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .