أحمد القاعود

رب مصيبة حلت بالبلاد كانت سببا فى بدء نهضتها. ففى مصر المنكوبة بالحكم العسكري منذ خمسينيات القرن الماضي، وصل الحال بعد ستة عقود من الزمان إلى مزيد من الفوضي والانهيار على كافة الأصعدة، وهي فترة مساوية تقريبا لنهضة أمم دمرت مقدراتها تماما، مثل اليابان وألمانيا، ودولة نشأت فى بيئة معادية لها وتعيش دائما حالة الحرب وهي اسرائيل.

أسس الصهاينة كيانهم فى الأراضي العربية فى فترة مساوية لفترة الحكم العسكري لمصر بعد الغاء الملكية، عاش الكيان مكروها منبوذا بلا موارد ولا امكانيات، لكنه بنى دولة حديثة وفرت العدالة الاجتماعية والحرية لشعبها، بينما أخذ العسكر مصر وشعبها رهينة، وأصبحت مقدرات الوطن كله خاضعة لهم وعرضة لنهبهم.

تحصل اسرائيل على تقييمات متقدمة على مستوى التقدم العالمي فى كافة المجالات من الطب إلى الفيزياء مرورا بالتكنولوجيا والصناعات العسكرية، وهي مجرد عصابة تجمعت من شتات الدول لتنشئ كيانا عنصريا، بينما تنحدر مصر بقيادة عسكرها إلى مستنقعات الجهل والتخلف والمرض، وكل ما استطاعت تقديمه من علم كان فى مجمله عملية نصب ودجل على ألاف البسطاء الذين يبحثون عن أمل حتى ولو كان سرابا.

ومن صاروخ عبدالناصر الذى غزا الفضاء، إلى كفتة عبدالفتاح السيسي التى تقضي على الايدز، تحولت أمة وحضارة من نص أساسي إلى مجرد هامش فى دفاتر الأمم، أفقدها الحكم العسكري طيلة العقود الكئيبة الكرامة والهيبة والتحضر وقضى تماما على فكرة الانتماء داخل الانسان المصري.

مر عامان على سقوط مصر تحت الاحتلال العسكري، الذى حدث بصورة مزيفة صنعت فى أجهزة الاستخبارات الصهيونية والأمريكية، للقضاء على الصحوة المصرية، لم تتقدم مصر فيهما خطوة واحدة للأمام بل عادت مئات السنين إلى الخلف.

عادت مصر إلى عصور الظلام فى أوربا وقت انتشار الخرافة، وفترة مطاردة الأرواح الشريرة، لم تعد مصر دولة أو مكان يعرف الدساتير أو القانون، ولا تنتمي لأي شكل من أشكال الحكم الحديث، إذ لا يمكن توصيف النظام العسكري الحاكم فى العلوم السياسية سوى بأنه نظام احتلال ارهابي.

عامان مرا على النكبة، لم يتحقق من مطالب الخداع التى أعلنت وقتها للانقضاض على الشعب المصري وثورته أي شيئ، ولم يتحقق للمصريين أي اضافة، بل زادت ثروات العسكريين وجماعات الارتزاق التابعة لهم من جيوب المصريين، ازداد الغلاء فحشا، وانهارت الخدمات أكثر، رفع الدعم والباقي فى طريقه للالغاء، تلد النساء أمام أبواب المستشفيات ويلقى بالمرضى فى أكوام القمامة للتخلص من مسؤليتهم وتوفير نفقات علاجهم.

تعيش الدولة فى عصر الظلام، كما تعيش أيضا فى عصر الظلم، لا كهرباء لا ماء نظيفة ولا ماء مستمرة طوال الوقت، لا خبز ولاعمل ولا علاج.

عندما خرج أعداء الديموقراطية فى 30 يونيو المشؤوم، لسرقة ارادة الشعب تحت حماية أسلحة المعونة الأمريكية الممنوحة بعد اتفاقية كامب ديفيد، صوروا أن المشهد فى مصر لا يطاق وأن هناك حربا أهلية على الأبواب، وأنه لا توجد ديموقراطية ولاحريات، الأن صارت مصر مقتلة ومقبرة، أصبح النظام العسكري أكثر وحشية من أي نظام عرفه التاريخ المصري، لا أحد يعارضه ولا أحد يناقشه، يصفي المعارضين خاصة الطلبة منهم، لارسال رسالته الى الشباب ومشروع العلماء، لامكان لكم فى أرض الحرام.

أصبحت مصر فاشية أكثر من أي فاشية أخرى، وبمقارنتها بفاشيات أوربا كألمانيا النازية أو كوريا الشمالية فى أسيا، ستجد أنك ازاء فاشية، بلا قيمة ومنعدمة الأخلاق، فاشية خيانية بلا هدف أو مشروع، ولا يحكمها أسوياء.

ففي كوريا الشمالية هناك مشروع يواجه الولايات المتحدة الأمريكية ويقوم على صناعة نووية عسكرية حقيقية، ينصب به على الجماهير. وفى ألمانيا كان هناك مشروع قومي عنصري بنى به النظام النازي شيئا من السيطرة على العقول لبعض الوقت، أما مصر فلا مشروع ولا قيمة انما مشروع الفساد والافساد.

خلال عامي الحكم العسكري ورغم المعونات المليارية وما توفر من رفع الدعم وأسعار الخدمات، لم يضاف جديد للحالة المعيشية المصرية ولم تستثمر هذه المعونات فى تنظيم خدمات أو تحسين مفاسد الحكم، بل زادت رواتب العسكريين والشرطة والقضاة، وكأن مصر ذات ال90 مليون انسانا اختصرت فى هؤلاء وهم فقط من يستحقون الحياة على أرضها. وهو ما يردده دوما مسؤولو الحكم العسكري ووزرائه خاصة ما يسمون بوزراء العدل، وهم خير مثال على المرحلة.

هذا المستنقع الذى أغرق العسكر فيه مصر، يواجه بمقاومة شديدة لم تهدأ طيلة هذه المدة، تأكيدا بأن الوضع لن يكون أبدا كما الماضي، إذ لا مكان للحكم العسكري فى مصر ولا فى أي بلد عربي، فالناتج الوحيد من هذه المحنة هو تلك الطبقة القوية التى تشكلت بالملايين ولازالت صامدة ضد القتل والرصاص والسجن والاغتصاب حتى تنتصر على هؤلاء يوما ما.