حازم سعيد :

لي منذ عرفت التيار الإسلامي على يد مجموعة من شباب الإخوان المسلمين ثلاثون سنة مكثت فترة أفكر وأدرس وأفاضل إلى أن اتخذت قرار الانضمام لها بعد طول تفكير مقتنعاً متعلماً محباً داعياً الله بالثبات على هذا النهج إلى أن أموت في زمرة الصالحين والمجاهدين .

الإخوان هذه الجماعة المباركة التي تأسست منذ سبع وثمانين سنة على يد الإمام المؤسس حسن البنا رحمه الله وتقبله في الشهداء ، كبديل قائم بأعباء الخلافة الإسلامية ، وجاءت وظيفتها كما أسسها الإمام للقيام بحفظ الدين والسير بالأمة من حالة التفكك والتشرذم والانهيار في كل المجالات إلى أستاذية العالم ( المرادف لخلافة على منهاج النبوة الراشدة ) متدرجة في ذلك من الإصلاح على مستوى الفرد ( الفرد المسلم والبيت المسلم ) إلى الإصلاح على المستوى الجماعي والأممي ( المجتمع المسلمة والدولة المسلمة وأستاذية العالم أو الخلافة الراشدة ) .

اشتغلت جماعة الإخوان في كل محاور الإصلاح والنهوض بالأمة ، ولو كتبنا لنحصر جهودها على مستوى الفرد أو على مستوى الإصلاح الاجتماعي أو على مستوى الخدمة العامة للناس أجمعين من مستشفيات ومدارس أو على مستوى التنمية الاقتصادية بمشاريع فردية وجماعية أو على مستوى السياسة والتعامل الدولي لملأنا مجلدات ، رغم كل الأجواء المحاربة والتآمر الدولي الواسع عليها في كل البلدان التي حلت بها ، بما يجعلها بعد الله سبحانه ، الملاذ الأول لدعوة الإسلام العالمية الخالدة .

والذي أكتبه هنا في هذه المقالة بعض مما تعلمته خلال الفترة التي انتسبت فيها لهذه الدعوة التي أتشرف بالانتماء إليها ، وهو أول ما أتدبره حين أبحث في ذاكرتي عما تعلمته من الإخوان :

 

أولاً : الحب في الله والأخوة الصادقة :

والحب في دعوة الإخوان مبتدأ وخبر .

أول ما رأت عيني داخل هذه الجماعة هو الحب ، وهو أعظم منحة أعطاها الله سبحانه للمسلمين ، ومنها اقتبس الإخوان فكرتهم وتربيتهم ، الحب في الله ولله وعلى دعوة الله سبحانه .

من أهم قيم الجمال والنماء التي علمنا إياها الإخوان هي الحب ، فنحب الله سبحانه ونحب طريقه ونحب رسله ، ونحب أولياءه ، ونحب إخواننا في الله بغير أرحام بيننا ولا صلة ولا وشيجة سوى أنهم يتتبعون طريق الله ويتخلقون بأخلاق العبودية لله .

الحب لغير غرض ولا منفعة ، حقيقة قل أن يدرك قيمتها البشر ، والإخوان يدركون .

لو ذهبت أعد لك وأسرد كيف ربانا الإخوان على الحب بغير غرض ولا منفعة شخصية ولا وجاهة ولا استزادة من متاع الحياة الدنيا لقال الناس : دراويش .

سأسرد لك هنا عزيزي القارئ أحد أهم الأوراد التي يدأب الإخوان عليها ، وتدبرها بعين قلبك لتعلم كيف هو الحب في دعوة الإخوان ، ويكفيك أن تعرف مسمى الورد أو الدعاء لتدرك ما أريدك أن تذهب إليه : إنه : ( ورد رابطة القلوب ) : يتلو الأخ في تدبر كلمات هذه الآية والدعاء  :

"قُلِ اللَّهُمَّ مَّالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنَ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ* تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلَ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتُ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ "اللهم هذا إقبال ليلك ، وإدبار نهارك ، وأصوات دعاتك ، فاغفر لنا"

ثم يستحضر صور من يعرف من إخوانه في ذهنه ويستشعر الصلة الروحية بينه وبين من لم يعرفه منهم. ثم يدعو لهم بمثل هذا الدعاء:

" اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك فوثق الله رابطتها وأدم ودها واهدها سبلها، واملأها بنورك الذي لا يخبو، واشرح صدورها بفيض الإيمان بك، وجميل التوكل عليك، وأحيها بمعرفتك، وأمتها على الشهادة في سبيلك، إنك نعم المولى ونعم النصير، اللهم آمين وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم " .

على قدر ما في هذه الميزة من منحة وهبة وجمال ، على قدر ما فيها من عذاب وبؤس لمن هو مثلي حين يرى كل رفاقه حوله وهو معهم بين شهيد أو معتقل أو مطارد يشتاق القلب إلى أحدهم فلا يملك إلا ذكراه .. ولكن لا بأس فهو جهاد وملحمة قدر لنا الله أن نخوضها ، فحي على الجهاد والبذل والتضحية .

 

ثانياً : حب الخير للناس أجمعين ، وخير الناس أنفعهم للناس :

والحب عند الإخوان لا يقتصر فيما بين بعضهم البعض ، بل يمتد للمسلمين ، ويمتد للبشرية كلها ، وأذكر من أوائل الكلمات التي سمعتها لشيخ من الإخوان ( الحاج أحمد البس عليه رحمة الله ) في أحد الخواطر الرمضانية في منتصف الثمانينات ، سمعته يقول : الإخوان لا يكرهون أحداً لذاته ، قد يكرهون فعلاً من أفعاله ، أو يكرهون بعده عن الله رب العالمين ، أو يكرهون معصيته التي يقوم بها ، لكن الإخوان يحبونه ويريدون له الخير ويريدون له الهداية والنجاة ...

وكانت من أكثر ما وقر في قلبي ووعاه ، لأنها كلمات تخط عقيدة واضحة بينة ، وترسم خطوات دعوة نورانية ، أثرت في كثير ممن سمع مثل هذه الكلمات ووعاها ، حتى رأينا مذكرات الامتحانات التي يعدها اتحاد طلاب الإخوان أو الأسر الطلابية الإخوانية معنونة في أول صفحاتها بقيمة : " خير الناس أنفعهم للناس " ، لتكون مع كلمات الحاج أحمد رحمه الله قناعات شاب ناشئ في هذه الدعوة الخالدة .

وما المستشفيات والمدارس والأعمال الاقتصادية وملايين أعمال البر بمليارات الجنيهات والعطف على الققراء والمحتاجين ، وما المزاحمة السياسية لتخليص البلاد من الطغاة ، وما الصبر على الهموم والضربات التي يتلقاها الإخوان جيلاً بعد جيل إلا لأنهم صادقين في دعواهم خدمة الناس والعمل لأجل راحتهم وإسعادهم .

آخر ما صنعناه بأيدينا قبل الانقلاب كان حملة ( نحمل الخير لمصر ) والتي امتلأت بألاف المعارض وألاف القوافل الطبية وألاف الترميمات للمدارس . الخ ، وكل ذلك لما تربينا عليه وأصبح كالدم يجري في عروقنا من قيمة ( خير الناس أنفعهم للناس ) .

وما المزاحمة والثورة والمقاومة للانقلاب إلا لنفس هذه القيمة ، فنخلع الطغاة والجبابرة ونقف في وجهوههم حتى يسعد بنو قومنا بالعدل الرباني والحكومة الراشدة .

إنها قيمة حب الخير للناس أجمعين والتي وضحها الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه حين قال : " كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم فتدخلونهم الإسلام " .

 

ثالثاً : حمل هموم الأمة كلها :

ومن هنا ترى الإخوان المسلمين بستٍ وثمانين دولة من دول العالم هم الذين يصنعون الإغاثات الطبية والمستشفيات الخيرية والمدارس الإصلاحية .

ترى الإخوان هم الجماعة المجاهدة التي تفكر بعقلية جمعية شاملة في كل هموم المسلمين في كل البقاع ، فإن تألم أخ في فلسطين وجدت أخاه الذي في السعودية يدعو له ويكفله ، وإن رأيت الإخوان في مصر يعانون من ظلم العسكر وجدت الإخوان بالعالم كله ينتفضون من أجلهم ويحملون همهم ويألمون من أجلهم ..

الإخوان هم الكيان الوحيد على وجه الأرض الذي وهو يعاني في بلد منشأه من تغريب وتشريد ومطاردة وقتل وسجن .. تجده رغم ذلك يفكر في جرح المسلمين النازف بفلسطين ، ويهتم بآلام المسلمين في الصومال وفي أفريقيا كلها ، ويدعون ليل نهار للمسلمين الذين يقتلون في بورما وتايلاند والفلبين والإيجور وباكستان وأفغانستان وليبيا والعراق واليمن ..

لا تجد كياناً يملك هذا الهم ويحمل العبء سوى الإخوان ، فلله دركم ما أزكاكم وما أطيبكم وما أنقاكم وما أطهركم .

 

رابعاً : احترام من سبق مع عدم تقديس الأشخاص ولا التعصب للهيئات :

من أهم ما تعلمته داخل هذه الجماعة المباركة احترام من سبق وحبه والدعاء له وتوقيره وإجلاله ومعرفة قدره وما تسبب فيه من هداية للحيارى وتوجيه وتربية ونقل للفكر والحق والخير .

ذلك كله مع عدم تقديس الأشخاص أو التعصب لهم ، وإنما نتعلم من القبس النوراني للإمام مالك : " كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب الروضة صلى الله عليه وسلم " .

 

خامساً : النظرة المستقبلية والمبادأة والابتكار .

كذلك فإن من أهم ما تعلمته هو السبق الدائم في التفكير والتخطيط والرؤية ، ولا زلت أذكر ذلك الشيخ الرباني رحمه الله الذي حدثنا في جلسة خاصة في بداية انتمائي لهذه الجماعة محذراً من خطورة وأبعاد الزواج العرفي بالجامعات ( وهو الشئ الذي لم تكن تعرف جامعات مصر وقتها سوى حالة أو حالتين على سبيل الحصر والعد ) ، ولكنه استشراف المستقبل بعين البصيرة ، وهو ما تحقق بعد ذلك بسنوات ، وكان رحمه الله ينبهنا أن على الإخوان أن يستعدوا بترسيخ القيم بين الطلاب وتعليمهم قواعد الإسلام وتحذيرهم من الاختلاط الماجن الذي يتسبب فيما وراءه من الكوارث التي منها الزواج العرفي .

ولا زلت أذكر كيف حثنا أساتذتنا – ولا زالوا - على التفوق الدراسي ، وأن المؤمن الغني خير وأحب إلى الله من المؤمن الفقير وفي كل خير ، وكيف أن على كل أخ أن يقدم من نفسه نموذج الطبيب المسلم والمهندس المسلم والتاجر المسلم والعالم المسلم والمبتكر المسلم .

ولا زلت أحفظ عن ظهر قلب صفات الفرد المسلم التي حث مؤسس الدعوة إمامنا البنا رحمه الله كل أخ من الإخوان على التخلق بها ، ليعلم كل متدبر لها كيف كان الإخوان دائماً متفوقون وسباقون ، وسيكونون دائماً كذلك إن شاء الله ، اقرأ معي صفات الفرد المسلم : " سليم العقيدة – صحيح العبادة – مجاهداً لنفسه – حريصاً على وقته – منظماً في شئونه – نافعاً لغيره – قوي الجسم – متين الخلق – مثقف الفكر – قادراً على الكسب ) .

 

ليس هذا فقط ما تعلمته في دعوة الإخوان المسلمين ، تلك الجامعة الشاملة ، والهيئة الكلية الرحيبة ، إنما تعلمت فيها كل معاني الإسلام والذي يمتلئ بكل قيم الجمال والحق والخير والمحبة والفضيلة ، وتعلمت منهم رحابة الصدر ومرونة الفكر والرؤية والاطلاع ، كما تعلمت منهم البساطة والتلاوة ، نعم .. لقد تعلمت منهم الحياة كلها .

وليس الذي ذكرت بالتفصيل آنفاً بأكثر أهمية من هذه المعاني الكلية التي أذكرها ، وإنما فقط هي خواطر سبقت نقاط منها بمجرد أن بدأت في الكتابة ...

ولو تدبرت في هذه القيم والمبادئ والأفكار عزيزي القارئ ، لعلمت أهم الأسباب والمقومات التي تحفظ هذه الدعوة رغم كم الضربات الرهيبة التي تعرضت – وتتعرض لها – على مدار تاريخها ، إلا أنها لربانيتها ثم شمولها وامتدادها ومرونتها وأفكارها المتزنة المقنعة واستمدادها جذورها وأصولها وفروعها من الإسلام الشامل فإنها محفوظة بحفظ الله الحفيظ الرحيم .... فلك الله يا دعوة الخالدين .

---------------

[email protected]