بقلم : د.جمال عبدالستار - الأستاذ بجامعة الأزهر

 
حكم قاضي الانقلاب محمد ناجى شحاتة، أول أمس بتحويل أخي الدكتور صلاح سلطان مع صفوة من خيرة رجال مصر وعلماءها إلى المفتي تمهيداً لإعدامهم بتهمة الانتصار للحق، والسعي لإعمار الأرض بمنهج الإسلام.

وهنا تبادر إلى ذهني السؤال الصعب والإجابة الأصعب، هل سينفذ الحكم في أخي د صلاح وإخوانه؟
والإجابة الواقعية تقول: إن نظاماً أهدر دماء المصريين في الميادين والشوارع والجامعات والمعاهد، بل في المساجدوالمنازل، وبين أولادهم وزوجاتهم،بل حتى في ملاعبهم وأنديتهم، ما الذي يمنعه أن يقتل هذه الأسود التي أخجلت الدنيا بصمودها، وزلزلت الباطل بثباتها!!
فقلت: نعم..يفعل فلا وازع من دين فقد حاربوا كل القيم الدينية، ولاوازع من خُلق فقد تعدوا كل الأعراف الأخلاقية، ولاوازع من رحمة فقد فقدوا كل مقومات الإنسانية، ولا وازع من قانون فقد أفسدوا كل الدساتير والقوانين، وكامل المنظومة القضائية.

ولكن بعد تأمل وتفكر تذكرت شيئاً جديداً، تذكرت أمراً خارج الحسابات والتكهنات ، تذكرت أخي الأحب دصلاح سلطان ، تذكرته في غير مرة، وفي أكثر من موقف في السفر والحضر وهو يدعو الله أن يرزقنا الشهادة معاً على أعتاب المسجد الأقصى محررين له من أسر الصهاينة.
ثم تذكرت منصة رابعة يوم الفض وتحت القصف، والموت يحيط بنا من كل حدب وصوب، وإذا بنا بلا مقدمات نتعانق عناقاً شديداً، عناق المحبين الصادقين ، عناق القلوب التي تعالت على كل المخاطر والمناظر ، تعالت على كل الأحداث والحسابات، والعيون تفيض حبا ، والأيادي تتشابك قربا وصدقا،وإذا بنا نتعاهد في هذه اللحظات مرة أخرى على إكمال مسيرتنا الدعوية التي انطلقنا بها، وعلى ألا نموت إلا على أعتاب المسجد الأقصى محررين، وأحسب أنه كان وعد الصدق ووقت الصدق ويوم الصدق ، وقد رأيت من إجابة الله لهذا العهد ما أذهلني فقد خرجت وأخي د صلاح في اللحظات الأخيرة من يوم مذبحة رابعة بين صفوف العسكر، ونفوسهم الى الدماء متعطشة، وقلوبهم قاسية، وأسلحتهم في الوجوه مشهرة، والى الرؤوس مصوبة، يطلقون النار على من يريدون بلا تورع أو تحرج، بل ربما للتسلية أو لإرواء غليل شياطينهم ، وماكنا نتوقع إلا القتل أو على أفضل التوقعات الأسر، وكانت المفاجأة أن شيئا من ذلك لم يحدث، رغم معرفتهم الكاملة بنا 
فأدركت أن الله أبقانا لأمر آخر.
 
ثم كان اجتماعنا بعدها بيوم في مسجد الفتح برمسيس، فأوغل الطغاة في الدماء، وأحاط المجرمون بالمسجد، وطلبوا أن يخرج الدكتور صلاح للتفاوض معهم ، فكانت نصيحة الأخوة لنا بالخروج من الباب الخلفي ،وبالفعل خرج كل منا من طريق، فكانت عناية الله الفائقة فسلكت طريقا كان بعناية الله آمنا، أما هو فقد وقع في يد البلطجية الذين عرفوه،فجردوه بداية من كل ما معه، وكان نقاشهم على أحد الأمرين إما قتله فتلك فرصة ذهبية فهو من أصحاب مرسي ـ على حد تعبيرهم ـ وإما تسليمه للعسكر فسيفرحون بذلك الصيد وسيشكرون لهم تلك الهدية، وأخي صلاح تحت ظلال السيوف والخناجر والأسلحة يستغيث بربه،، ويلوذ بحوله وقوته، وينتظر بأي طريقة سيُسفك دمه ، ولكن الله تعالى سلط بعضهم على بعض ، فأخذه كبيرهم ليفض نزاعهم، ومنه أستنقذه الله تعالى ببعض بلطجية المنطقة استجابة لطلب أحد جيرانهم من إخواننا، فكانت آية الحفظ والحماية، وكرامة العناية والرعاية.
فأيقنت من صدق العهد وتحقق الموعود، وتذكرت ما رواه الإمام النسائي-رحمه الله-في سننه - عنشداد بن الهاد-رضي الله عنه-أَنَّ رَجُلًا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليهوسلم فَآمَنَ به،وَاتَّبَعَهُ ثم قال:أُهَاجِرُ معك، فأوصى به النبي صلى الله عليهوسلم بعضَ أَصحابه فلما كانت غَزْوَةٌ غَنِمَ النبي صلى الله عليه وسلم سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ له،فأعطى أصحابَه ما قَسَمَ له،وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوهإليه،فقال:ما هذا؟قالوا:قِسْمٌ قَسَمَهُ لك النبي صلى الله عليه وسلم،فأخذه فجاء بهإلى النبي صلى الله عليه وسلم،فقال:ما هذا؟ قال:"قسمته لك"،قال:ما على هذا اتَّبَعْتُكَ!،ولكني اتَّبَعْتُكَ على أن أُرْمَى إلى ها هنا،وأشار إلى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ،فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ،فقال:"إن تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ"،فَلَبِثُوا قليلا ثم نَهَضُوا في قتال العدو،فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ قد أَصَابَهُ سَهْمٌ حيث أشار،فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أَهُوَ هو ؟"قالوا:نعم قال:"صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ"،ثُمَّ كَفَّنَهُ النبي صلى الله عليه وسلم في جُبَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم ثم قَدَّمَهُ فصلى عليه،فكان فيما ظهر من صلاته:"اللهم هذا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا في سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أنا شَهِيدٌ على ذلك ".
وهنا أقول من غير افتئات على الله تعالى :بل يقيناً في عهده ووعده: كذبت يا ناجي شحاتة.. لن تتمكن من أخي، فسوف يعصمه الله، فأحسبه صدق الله فصدقه الله، ووفى بعهد الله فأوفى الله له بعهده .
وهنا يدرك الجميع سر تعليق أخي صلاح عقب سماعه الحكم من القاضي شحاتة حيث قال : لن يضروكم الا اذى .. موعدنا في الأقصى..
نعم صدقت ياسلطان.. موعدنا في الأقصى، ولن ينال المجرمون منا إلا أذى، موعدنا معاً على أعتاب الأقصى يقينا ناجزاً، فثقتا بالله لايدركها إلا من عرفها ، ولا يفهمها إلا من سلك سبيلها، فأبشر يا سلطان بالقبول والانتصار، وأبشر يا شحاته ومن معك بالخيبة والخسران. 
 
د / جمال عبد الستار محمد ، الأستاذ بجامعة الازهر، والأمين العام لرابطة علماء أهل السنة.