13/06/2010

د. عصام العريان*

أزمات يأخذ بعضها بخناق بعض..

 لا تكاد أزمة تهدأ، ولا أقول تنتهي؛ لأنه لا حلول لأية أزمة حتى تبدأ أزمة أخرى تلاحقها، البعض يرى تلك الأزمات أعراضًا للأزمة المجتمعية الكبرى، والبعض يرى وراءها أيادي خفية تريد أن تشغل الناس بعيدًا عن أزمتهم الكبرى.
 
وهناك سمات باتت عامة لهذه الأزمات، ترسم ملامح العصر الذي نعيش فيه، أو على الأدق نهاية عصر ينتظر الجميع صفارة القضاء والقدر لتنفس الصعداء وترقب بداية عهد جديد.
 
أهم تلك السمات والملامح: غياب دور الدولة ومؤسساتها، لقد تمَّ تفكيك الدولة المصرية وتفريغ المؤسسات الأساسية فيها من الكفاءات العالية المهارة، ثم تهميش دور تلك المؤسسات بصورة أدت إلى عدم الثقة في قدرتها على القيام بواجباتها، وأصبحت "نخبة الحكم" تعتمد بصورة واضحة على مؤسستين سياديتين؛ الأولى وهي "الأمن" في المواجهة المستمرة الدائمة للأحداث حتى تمَّ إنهاكها تمامًا رغم أنها أصبحت جيشًا كامل العدد والعتاد، والأخرى "الجيش" الذي ينتظر في الثكنات حدوث الانفجار الخطير؛ ليتدخل حين تفشل الداخلية في احتواء أزمة من الأزمات أو حدوث عدة أزمات متداخلة أو بروز الأزمة من داخل المؤسسة الأمنية نفسها.
 
من تلك السمات الواضحة أيضًا: انسداد القنوات الشرعية أو قل إغلاقها وتأميمها في وجه المواطنين؛ فكل الهيئات التي يتم انتخابها من اتحادات طلابية ونقابات عمالية ومؤسسات نقابية مهنية، ثم المجالس المحلية انتهاءً بالبرلمان (مجلس الشعب ومجلس الشورى)؛ تمَّ تأميمها وإغلاقها في وجه المواطنين.
 
وكانت الطامة الكبرى أن يتم التلاعب بإرادة المواطنين وفرض نواب عليهم لم ينتخبوهم ولم يشاركوا في اختيارهم؛ لأن المجتمع المصري في نظر نخبة الحكم قاصرٌ، لا يجوز له أن يختار بحرية، وكأن الوطن مدرسة أو كلية جامعية يمكن تعيين مجلس اتحاد طلاب لهم، أو كأن مجلس الشورى ومجلس الشعب بمثابة اتحاد طلاب أو نقابة عمالية أو مهنية، دوره يقتصر على تحقيق مصالح الطلاب والعمال والمهنيين، وليس هو مجلس التشريع ورسم السياسات والمحاسبة والرقابة وسن الدساتير والقوانين وتعديلها، وعندما يتم انسداد قنوات التعبير الشرعية، وإغلاق المؤسسات الدستورية؛ فإن المجتمع يعبّر عن نفسه خارج القانون (لأن أجهزة الدولة لم تحترم القانون ولا الدستور)، وتتوالى الأزمات الخانقة لتؤدي في النهاية إلى الخروج عن السيطرة والانفجار، إلا إذا تمَّ التنفيس شيئًا قليلاً؛ لإخراج بعض البخار المكتوم قبل لحظة الانفجار وإذا أخطأت الحسابات تحدث الكارثة.
 
أحد تلك الملامح الواضحة في مجتمع الأزمة هو صراع نخبة الحكم الضيقة.
 
وعندما يتم إلغاء المؤسسية الدستورية، وعندما يتم تنحية القانون جانبًا، وعندما يصبح الهدف الوحيد هو البقاء في سدّة الحكم بأي ثمن؛ يصبح الاعتماد على نخبة ضيقة هو الحل الوحيد، وتتضارب المصالح الجانبية بين أعضاء تلك النخبة بعيدًا عن الهدف الأسمى؛ وهو بقاء المجموعة في الحكم وتماسكها، ويحدث هنا صراعات قاسية تظهر آثارها في توالي الأزمات وتلاحقها، وأحيانًا افتعالها لإثبات القدرة على مواجهة بعضها.
 
البحث في جذور الظاهرة يحتاج إلى جهود عدد من المحللين والمفكرين، وعندنا في مصر وفرة منهم كتبوا بالفعل كتابات قيمة شرحت جوانب مهمة عندما تناولوا أوضاعنا الحالية مثل المستشار طارق البشري والخبير الاقتصادي حازم الببلاوي.
 
من أهم أسباب وجذور الأزمة: الاستقالة من مشروع وطني، يحشد جهود المصريين نحو هدف واضح بخطة عمل سلمية وفق برنامج زمني محدد، وأيضًا الاستقالة من دور قومي يحقِّق مكانة لمصر عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا، تدفع مصر ثمنه بتقديم نموذج يقتدي به الآخرون، ولا ننسى أيضًا تضارب خطة الإصلاح التي عرضها النظام منذ سنوات، وفشلها في الجانب الاقتصادي وغياب الجانب السياسي (تحقيق الديمقراطية)، بل إلغاء تلك الخطة تمامًا والنكوص عنها؛ بحيث أصبح الحديث عن وجود خطة للإصلاح مزحة ونكتة في أفواه المراقبين.
 
في خلفية ذلك المشهد (مشهد الأزمة) يظهر الدور الخارجي الخطير الذي لعبته الضغوط الأمريكية لصالح تحقيق أمن العدو الصهيوني على حساب الدور المصري والنهضة المصرية.. وكان السبيل إلى ذلك تسويق وَهْمٍ، يقول إن السلام مع العدو الصهيوني ممكن، وإن العرب سيلحقون بمصر (وفعلاً حدث ذلك)، وعندها سيعم الأمن والسلام المنطقة العربية، ويتحقق الرخاء في ربوع العالم العربي كله، وتنعم مصر بعد أعوام الحروب المريرة باستقرار ورخاء وأمن وديمقراطية.
 
وكانت النتيجة أن الحروب لم تتوقف، وأنهار الدماء سالت بأكثر من قبل، وأصبحت مصر متهمة بالتواطؤ مع العدو الصهيوني، والعرب باتوا خارج التاريخ، والرخاء تبددت الآمال فيه، ليس في مصر فقط بل وصلت الأزمات الاقتصادية والمالية إلى كل مكان حتى وصلت إلى "دبّي".
 
وأخطر النتائج حالة الفراغ التي شهدتها المنطقة العربية بعد استقالة مصر في معاهدة "كامب ديفيد"، وانشغلت بهمومها، وانفرد العدو الصهيوني بالدول العربية يأكلها دولة بعد دولة، حتى انفرد في النهاية بالشعب الفلسطيني في "أوسلو" وأصبحنا جميعًا أمام الحائط المسدود.
 
ولملء الفراغ نشطت دول عربية للقيام بالدور المصري، وفشلت جميعها ثم جاء الدور الإيراني الذي عمل بذكاء على محاور عديدة، وكسب أرضًا واسعة، وأعطته أمريكا فرصة ذهبية عندما هاجمت واحتلت أفغانستان والعراق؛ فأصبحت من دول الجوار لإيران، وبات جنودها معرضين لخطر بالغ في أي مواجهة مع إيران، وتعثر الدور الإيراني لعوامل عديدة مذهبية وتاريخية ونفسية، ظلت حاجزًا في وجه أي تمدد إيراني قومي، له طابعه الفارسي حتى ولو ترشح بالإسلام الشيعي.
 
ثم جاء الدور التركي الذي يقدِّم نفسه كبديل ملائم، يحظى بقبول أمريكي وتمنُّع أوروبي، وتواجه عقبة تاريخية قد تجاوزها الزمن بعد تعثر تحقيق حلم الوحدة العربية.. بديل إسلامي محافظ يحكم في دولة علمانية، وصل إلى الحكم بطريق ديمقراطي، حقَّق أحلامًا اقتصاديةً باهرة للمواطن التركي، يتمتع بزعيم كاريزمي خطير هو "أردوغان".
 
ويا للأسف جاء الهجوم من مصر أيضًا، وكأننا نقول: لا نقدر أن نقود، ولا نتحمل مسئولية القيادة، وفي نفس الوقت لا نرغب ولا نريد أن يتولَّى أحد ملء المقعد الشاغر واحتلال موقع القيادة.
 
إنه مجتمع مصري مأزوم في منطقة عربية تمثل قوس الأزمات في عالم مضطرب مأزوم، يعاني أيضًا اختلال عجلة القيادة بعد فشل إدارة بوش اليمينية في فرض رؤيتها على مدار 8 سنوات عجاف، وضعف إدارة أوباما وترددها في تقديم رؤية بديلة لأيٍّ من الملفات المعقدة التي ورثتها، وفي مقدمتها ملف الديمقراطية في الوطن العربي، والتعامل مع عالم إسلامي يموج بأحلام التقدم والمشاركة في بناء العالم من منطلقات إسلامية، وملف الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وحصار ظالم على غزة، وعدم احترام لإرادة الشعب الفلسطيني التي ظهرت في انتخابات حرَّة، والخروج الآمن من العراق وأفغانستان، فضلاً عن الملف النووي الإيراني وغيرها من الملفات المفتوحة.
 
 ________
 
* عضو مكتب الإرشاد.