11/01/2009

لا أعرف إلي أين توصلنا حملة الشحن والتعبئة في الإعلام المصري ضد الأشقاء الذين اختلفوا معها، لكن الذي أعرفه جيداً أنها تؤدي إلي تسميم علاقات وأجواء ينبغي أن نحافظ علي صفائها، وتسيء إلي هيبة مصر وريادتها المفترضة، كما أنها تخصم كثيرا من رصيد احترام الإعلام المصري.

أدري أن إعلامنا موجه علي نطاق واسع، رغم هامش حرية التعبير المتاح لبعض منابره، كما أنه يجيد الهجاء علي نحو يشهد له بـ «الريادة» المتميزة فيه، لكنني أفهم أن ذلك كله يتم في إطار من احترام الضوابط المهنية والأخلاقية، غير أن الذي حدث في الآونة الأخيرة ذهب إلي أبعد مما يخطر علي البال في تجاوز الحدود وعدم الالتزام بتلك الضوابط، وإذا كان أسلافنا من أهل العلم قد قالوا إن الخلاف لا يفسد للود قضية، إلا أن الخلاف في زماننا أصبح مسوغا لتكريس البغض وتعميق القطيعة والخصومة، وتبرير استباحة الكرامات وإطلاق الأكاذيب والافتراءات.

إن المرء لا يكاد يصدق تلك اللوثة التي أصابت الإعلام المصري في تعامله مع الملف الفلسطيني خصوصا موضوع حركة حماس، التي يستهدفها الاجتياح الإسرائيلي الآن، باعتبارها علي رأس مقاومة باسلة تشارك فيها فصائل أخري، للدفاع عن شرف فلسطين ضد الذين يريدون تركيع شعبها تمهيداً لتصفية القضية أو بيعها، وإذا كان متوقعاً - من الناحية الأخلاقية علي الأقل ولا أقول الاستراتيجية - أن يقف إعلام بلد في قيمة وحجم مصر في صف المقاومين الفلسطينيين أياً كانت مسمياتهم أو الرايات التي يرفعونها، فإن الذي حدث كان العكس تماما، إذ عمد إعلامنا ليس فقط إلي طعن المقاومين بتحميلهم المسئولية عن الاجتياح الإسرائيلي، وإنما ذهب إلي حد تعبئة المصريين ضدهم وإشاعة البغض والكراهية لهم.

سأضرب مثلا ًبكيفية تعامل الإعلام المصري مع حادث مقتل ضابط الشرطة الرائد «ياسر فريج عيسوي» في اشتباك وقع علي الحدود بين مصر وقطاع غزة يوم 28/12، لكن قبل الدخول في التفاصيل أذكر بأن إسرائيل قتلت في العامين الماضيين 18 مصرياً علي الحدود وفي مدينة العريش، بعضهم رجال شرطة صدرت تعليمات بحظر النشر في حالاتهم، وقد تم احتواء تلك الحوادث، التي حمل القتل فيها علي سبيل الخطأ، المترتب علي إطلاق «نيران صديقة»!.. ولعل كثيرين يذكرون أن رئيس الوزراء الإسرائيلي «إيهود أولمرت» قام بزيارة رسمية إلي مصر في منتصف عام 2006 بعد يومين من قتل الإسرائيليين لاثنين من رجال شرطة الحدود المصريين، واستقبل الرجل بالترحيب اللازم، وكأن شيئا لم يكن!.

ما الذي حدث في أعقاب مقتل الرائد ياسر عيسوي؟ إنني أقدر صدمة أسرته وأشاطرها حزنها وأتعاطف معها إلي أبعد مدي، وأؤيد كل ما اتٌخذ من إجراءات لتكريم اسم الرجل باعتباره شهيدا للواجب، لكن ما يثير الانتباه أن الحادث وظُف سياسيا وإعلاميا لخدمة الاشتباك مع حماس وتأجيج المشاعر ضدها.. كيف؟.

الخبر نشرته صحيفة «المصري اليوم» في 29/12 ضمن أحداث القطاع التي وقعت في اليوم السابق، وقالت في أحد عناوين الصفحة الأولي: مقتل ضابط مصري برصاص فلسطيني، ثم أوردت في الخبر النص التالي: قتل ضابط مصري خلال الاشتباكات مع المسلحين الفلسطينيين.. حيث أطلق الفلسطينيون النار في الهواء في محاولة لاقتحام الحدود، وردت عليهم القوات المصرية بالمثل، فتحول إطلاق النار بعد ساعة علي بدئه إلي اشتباك بين الجانبين، قتل خلاله الضابط و4 مسلحين فلسطينيين.

إذا أعدت قراءة النص جيدا ستلاحظ ما يلي:

1 - إن اسم الضابط لم يذكر.

2 - إنه قتل أثناء تبادل إطلاق النار بين الطرفين.

3 - إن الذين اشتبكوا مع حرس الحدود المصريين كانوا من الفلسطينيين الراغبين في عبور الحدود، وليس فيه أي إشارة إلي حماس.

4 - إن الاشتباك الذي قتل فيه الضابط أسفر عن قتل أربعة فلسطينيين أيضاً «الثابت أن واحداً فقط قتل في حين جرح عشرة».

كيف لعب الإعلام المصري بالخبر، وحوله إلي قنبلة تلوث الإدراك المصري، بحيث يجعل القارئ أو المشاهد يندفع إلي الشارع هاتفا «لا فلسطين بعد اليوم»، كما حدث أيام الرئيس السادات.. غداً بإذن الله أجيب عن السؤال

 

الدستور