في خطوة تصعيدية تكشف عمق الأزمة السياسية والحقوقية في تونس، دخل رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي ورئيس الحكومة الأسبق علي العريض، في إضراب عن الطعام لمدة ثلاثة أيام داخل سجنهما، تضامناً مع المحامي والوزير الأسبق العياشي الهمامي، الذي يخوض إضراباً مفتوحاً احتجاجاً على محاكمته التي يصفها بـ"الجائرة" .
هذا الإضراب، الذي يأتي في سياق أحكام قضائية قاسية ومتتالية ضد أبرز رموز المعارضة، لم يعد مجرد احتجاج فردي، بل صرخة سياسية مدوية ضد منظومة حكم الرئيس قيس سعيّد، التي حوّلت القضاء، بحسب منتقديها، إلى أداة لتصفية الخصوم السياسيين، وكرّست مناخاً من القمع أنهى فعلياً مكتسبات ثورة 2011 .
"الأمعاء الخاوية".. سلاح الأحرار الأخير
أعلنت هيئة الدفاع عن الغنوشي دخوله في إضراب عن الطعام أيام 22، 23، و24 ديسمبر الجاري، ليس فقط تضامناً مع الهمامي، بل تعبيراً عن رفضه القاطع لما وصفه بـ"المحاكمات غير العادلة والأحكام الجائرة"، والمطالبة بعودة السلطة القضائية إلى استقلالها . بالتوازي، أعلنت هيئة الدفاع عن العريض خطوة مماثلة، مؤكدة أن إضرابه يمثل رفضاً لتوظيف القضاء في المعارك السياسية ومطالبة صريحة بالإفراج الفوري عن كافة السجناء السياسيين ومعتقلي الرأي .
هذا التحرك يأتي استجابة لدعوة أطلقها العياشي الهمامي، وزير حقوق الإنسان الأسبق، الذي أُوقف في 2 ديسمبر الجاري لتنفيذ حكم بسجنه 5 سنوات في قضية "التآمر" الشهيرة، ودخل في إضراب مفتوح عن الطعام منذ لحظة اعتقاله . اختيار الهمامي، وهو شخصية حقوقية بارزة، كهدف للسلطة، يرى فيه المراقبون رسالة واضحة بأن نظام سعيّد لم يعد يتسامح مع أي صوت معارض، حتى وإن كان من رموز الدفاع عن الحريات.
من "التآمر" إلى "تسفير الشباب".. أحكام بالكوم لتصفية الخصوم
يعكس وضع الغنوشي والعريض والهمامي نمطاً ممنهجاً من الاستهداف القضائي الذي طال العشرات من قادة المعارضة منذ انقلاب 25 يوليو 2021 .
• راشد الغنوشي: يقبع في السجن منذ 17 أبريل 2023، ووجهت له تهم "التحريض على أمن الدولة"، وصدرت بحقه أحكام متعددة في قضايا يعتبرها سياسية بامتياز، ويرفض حضور جلساتها .
• علي العريض: موقوف منذ 22 سبتمبر 2022، وصدر بحقه في مايو الماضي حكم صادم بالسجن 34 عاماً في قضية "إرسال الشباب للقتال في سوريا"، وهي قضية يرى كثيرون أنها أعيدت للحياة لتصفية خصوم سياسيين من حقبة ما بعد الثورة .
• قضية "التآمر": تعتبر القضية الأبرز التي استخدمها النظام لتجميع خصومه في سلة واحدة. ففي فبراير 2023، شملت الاعتقالات شخصيات من مختلف الأطياف السياسية مثل أحمد نجيب الشابي، نور الدين البحيري، رضا بلحاج، عصام الشابي، وغازي الشواشي. وفي نوفمبر الماضي، صدرت بحقهم أحكام استئناف قاسية تراوحت بين 5 و45 عاماً .
ورغم أن السلطات التونسية تصر على أن هؤلاء "حوكموا في تهم جنائية" وأن القضاء مستقل، فإن المعارضة والمراقبين الدوليين يؤكدون أن هذه المحاكمات تفتقر لأدنى معايير العدالة، وأن التهم فضفاضة وتستخدم كغطاء قانوني لتجريم العمل السياسي المعارض .
انقلاب 25 يوليو.. قضاء التعليمات وتكريس الحكم الفردي
لا يمكن فصل هذه الإضرابات والأحكام عن السياق السياسي الذي فرضته إجراءات قيس سعيّد منذ 25 يوليو 2021. فمن خلال حل البرلمان، وإصدار التشريعات عبر أوامر رئاسية، وفرض دستور جديد، وإجراء انتخابات صورية، نجح سعيّد في تفكيك كل المؤسسات الدستورية والرقابية التي أُنشئت بعد الثورة .
ما وصفته المعارضة بـ"الانقلاب على الدستور وترسيخ الحكم الفردي المطلق"، يراه الرئيس وأنصاره "تصحيحاً لمسار الثورة" . لكن النتائج على الأرض تتحدث عن نفسها: تونس التي كانت منارة للديمقراطية الناشئة في العالم العربي، أصبحت اليوم دولة تُحاكم فيها الآراء السياسية، ويُزج بالمعارضين في السجون بتهم "التآمر"، ويستخدم فيها القضاء كأداة للبطش بالخصوم.
إن إضراب الغنوشي والعريض اليوم ليس مجرد معركة شخصية من أجل حريتهما، بل هو فصل جديد من فصول مقاومة الانقلاب، وتأكيد على أن المعركة من أجل استعادة الديمقراطية واستقلال القضاء في تونس لا تزال مستمرة، حتى وإن كان سلاحها الأخير هو "الأمعاء الخاوية" .
.

