رغم مرور أكثر من شهرين على إعلان وقف إطلاق النار في قطاع غزة في العاشر من أكتوبر 2025، إلا أن صمت المدافع لم ينجح في إسكات صرخات الجوع التي لا تزال تفتك بسكان القطاع. تكشف أحدث التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة الدولية عن واقع مرير يختبئ خلف مصطلح "التحسن النسبي"؛ فبينما سمح توقف القتال بزيادة طفيفة في تدفق المساعدات، إلا أن هذه الزيادة لم تترجم إلى أمان غذائي حقيقي لملايين المحاصرين بين ركام المنازل المدمرة والبنية التحتية المتهالكة.

 

الأرقام الواردة من جنيف ترسم صورة قاتمة لمستقبل القطاع، حيث أكدت بيانات "التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي" (IPC) أن المساعدات الحالية تكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة، لكنها تعجز عن انتشال السكان من مستنقع العوز. ومع استمرار دمار شبكات المياه والصرف الصحي والمنظومة الصحية، يجد الغزيون أنفسهم أمام معركة جديدة لا تقل ضراوة عن الحرب العسكرية، معركة سلاحها الرغيف والدواء، وضحاياها أطفال ونساء يواجهون شتاءً قاسياً في خيام لا تقي برداً ولا تدفع جوعاً.

 

أرقام صادمة.. "المجاعة" تتراجع لكن "الكارثة" مستمرة

 

تشير الإحصائيات الأممية الحديثة إلى أن حجم الكارثة الإنسانية لا يزال يفوق قدرة الاستجابة الدولية الحالية. فوفقاً للتقارير، لا يزال حوالي 1.6 مليون شخص في قطاع غزة يعانون من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وهو ما يمثل الأغلبية الساحقة من السكان. الأخطر في هذه البيانات هو التفاصيل الدقيقة لمستويات الجوع؛ إذ يواجه أكثر من 500 ألف شخص ظروفاً "طارئة" (المرحلة الرابعة من التصنيف)، بينما يقبع أكثر من 100 ألف شخص في خانة "الظروف الكارثية" (المرحلة الخامسة)، وهي المرحلة التي تعني الموت البطيء جوعاً.

 

هذه الأرقام تفضح هشاشة الوضع القائم، وتؤكد أن ما تم إنجازه منذ وقف إطلاق النار لا يعدو كونه مسكنات مؤقتة. فالمكاسب التي وصفها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنها "هشة بشكل خطير"، مهددة بالانهيار في أي لحظة. إن مجرد توفر بعض السلع في الأسواق لا يعني قدرة المواطنين على شرائها، ففي ظل معدلات بطالة فلكية وتدمير شامل لمصادر الدخل، أصبح الغذاء متوفراً نظرياً ولكنه بعيد المنال عملياً عن جيوب الفقراء والنازحين الذين فقدوا كل شيء.

 

الأطفال والنساء.. الفاتورة الأبهظ للكارثة الغذائية

 

الوجه الأكثر مأساوية لهذه الأزمة يتجسد في معاناة الفئات الأضعف. تحذر التوقعات الأممية من مستقبل مظلم ينتظر أطفال غزة، حيث تشير التقديرات إلى أن أكثر من 100 ألف طفل دون سن الخامسة سيواجهون سوء تغذية حاد بحلول عام 2026، من بينهم أكثر من 31 ألف حالة شديدة الخطورة تتطلب تدخلاً طبياً عاجلاً قد لا يكون متوفراً. ولا تقتصر المعاناة على الأطفال فحسب، بل تمتد لتشمل نحو 37 ألف امرأة حامل ومرضعة يعانين من سوء التغذية، مما يهدد صحة جيل كامل قادم.

 

إن هذا التدهور في الحالة الصحية ليس نتاج نقص الغذاء وحده، بل هو نتيجة طبيعية لانهيار الخدمات الأساسية. فالأطفال الذين ينامون في خيام تغمرها مياه الأمطار، ويشربون مياهاً غير معالجة، تفتك بهم الأمراض قبل أن يفتك بهم الجوع. وقد أكدت وكالات مثل اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية أن بدون توسيع نطاق المساعدات لتشمل الرعاية الصحية والمياه النظيفة، فإن معالجة سوء التغذية ستظل ضرباً من المستحيل.

 

تحذيرات من انتكاسة محتملة.. وسيناريوهات 2026

 

تجمع كافة التقارير الدولية، بما فيها تقارير الأونروا والفاو، على أن الوضع في غزة يقف على حافة الهاوية. التحسن الطفيف المسجل مرهون بشرط استدامة تدفق المساعدات وفتح المعابر التجارية بشكل كامل ورفع القيود عن المواد الأساسية والمدخلات الزراعية. وتحذر الأمم المتحدة من "أسوأ السيناريوهات"، وهو تجدد الأعمال العدائية أو توقف تدفق المساعدات، مما قد يعيد القطاع بأكمله إلى مربع المجاعة الشاملة بحلول منتصف إبريل 2026.

 

إن الدعوات الدولية لضرورة "الانتقال للمرحلة الثانية" من اتفاق وقف إطلاق النار والبدء في عملية إعادة الإعمار ليست ترفاً سياسياً، بل ضرورة قصوى لإنقاذ الأرواح. فبدون إعادة تنشيط الإنتاج المحلي، وإصلاح المخابز وشبكات المياه، وضخ السيولة النقدية في الأسواق، ستظل غزة تدور في حلقة مفرغة من الإغاثة الطارئة التي لا تبني مستقبلاً ولا تضمن حياة كريمة. إن العالم اليوم أمام اختبار أخلاقي: إما التحرك الفوري لتحويل الهدنة العسكرية إلى استقرار معيشي، أو مشاهدة آلاف المدنيين يموتون بصمت وسط ركام الحرب التي انتهت ظاهرياً فقط.