مع نهاية عام 2025، تتصدر صفقة "رأس الحكمة" بين مصر والقابضة "إيه دي كيو" الإماراتية، بقيمة 35 مليار دولار في 23 فبراير 2024، مشهد الجدل حول مستقبل الساحل الشمالي الغربي لمصر، وسط مخاوف متصاعدة من التفريط في الأراضي الاستراتيجية وتحويل الشريط الساحلي الأجمل في البلاد إلى نطاق نفوذ استثماري خليجي مغلق أمام المصريين.
تمتد هذه المخاوف من "رأس الحكمة" وحتى "خليج الغرام" و"علم الروم"، لتطرح أسئلة قاسية حول الأمن القومي، والسيادة، والذاكرة الوطنية، ومعنى أن تتحول حدود مصر البحرية إلى مجال نفوذ لرأس المال الأجنبي.
تحولات كبرى في الساحل الشمالي الغربي
منذ الإعلان عن الصفقة، تتابعت الاستحواذات الخليجية على أجمل شواطئ الساحل الشمالي الغربي، في وقت يؤكد فيه مصريون يرتادون المنطقة أن المسافة من "بورتو مارينا" عند الكيلو (105-110) وحتى "خليج الغرام" بمرسى مطروح، بطول يقترب من 250 إلى 300 كيلومتر، تشهد تحولاً غير مسبوق في طبيعة العمران والملكية.
مصدر حكومي كشف لنشرة "إنتربرايز" الاقتصادية عن وجود خطط حكومية لإعادة رسم ملامح الساحل الشمالي، عبر مخطط عام لشريط ساحلي بطول 400 كيلومتر يمتد من "مارينا" حتى الحدود الليبية، التي تبعد عن مرسى مطروح بنحو 222 كيلومترا.
إخلاء خليج الغرام: من ذاكرة سينمائية إلى مشروع استثماري
أخطر تطور ميداني تمثل في ما كشفه بعض أهالي مطروح عن بدء القوات المسلحة المصرية، بتوجيه مباشر من رئاسة الجمهورية، في إخلاء 7 قرى كاملة في شاطئ وخليج الغرام الشهير، لصالح استحواذ خليجي جديد.
هذا الخليج الذي ارتبط في الذاكرة الجمعية بفيلم "شاطئ الغرام" عام 1950، بطولة ليلى مراد، تحول بعد 75 عاما إلى مقصد سنوي للعشاق والمصطافين قبل أن يدخل الآن دائرة "إعادة التوظيف" لصالح مشاريع كبرى، كما وثق حساب "صحيح مصر" هذه الرمزية: في فبراير عام 1950، ظهرت المطربة ليلى مراد في فيلم شاطئ الغرام الذي صُوّر في إحدى المناطق الساحلية بمدينة #مرسى_مطروح…
🔴 في فبراير عام 1950، ظهرت المطربة ليلى مراد في فيلم شاطئ الغرام الذي صُوّر في إحدى المناطق الساحلية بمدينة #مرسى_مطروح. وقد أسهم الفيلم في الترويج للمدينة وللشاطئ الذي حمل الاسم نفسه. وبعد مرور 75 عامًا، أصبح خليج الغرام بالكامل وليس الشاطئ فقط قبلة للعشاق والمصطافين سنويًا،… pic.twitter.com/2vY2ekEntF
— صحيح مصر (@SaheehMasr) December 15, 2025
إدارياً، أعلن نادي الزمالك تلقيه خطاباً من "هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة" بوقف أي مشروعات له بـ"شاطئ الغرام"، ضمن مخاطبات وصلت إلى نحو 36 جهة من نوادٍ رياضية مثل "الإسكندرية" و"سموحة"، وشركات وطنية كـ"المقاولون العرب" و"حسن علام"، وجامعات حكومية مثل "عين شمس"، وهيئات قضائية كالنيابة الإدارية، ومصايف تابعة للعاملين المدنيين بوزارة الدفاع.
هذه المخاطبات، التي تداولتها صفحة "مطروح اليوم"، رفعت عدد الجهات المطالبة بالإخلاء إلى 63 جهة، وطالبت بوقف أي تعاملات أو أعمال إنشاء داخل منطقة "خليج الغرام" ضمن خطة مشروع قومي على 5540 فدانا، يستهدف تطوير الشواطئ ومسطح المياه على بعد 17 كيلومتراً فقط من مرسى مطروح.
القرارات تضمنت تعليق جميع التراخيص السابقة الصادرة للبناء أو إقامة منشآت، وعدم قبول أي مقابل لحق الانتفاع بشاطئ الغرام عن عام 2026 حتى إشعار آخر، ما يعني عملياً تجميد الوجود المدني القديم تمهيداً لإعادة تخصيص المنطقة. في الخلفية، تأتي تحذيرات خبراء من أن استحواذ الإمارات على أصول مصرية حساسة، بينها الموانئ وشركات الحاويات، يمثل خطراً بحكم الارتباط الوثيق مع الاحتلال:
تعويضات هزيلة وغضب الأهالي: "بيع للوطن" لا تطوير
على مستوى الأهالي، تفيد الشهادات بأن محافظة مرسى مطروح طلبت من أصحاب الشقق والعقارات إخلاء المنازل مقابل تعويض يتراوح بين 75 و95 جنيها للمتر، بما يعادل تقريباً بين 300 و400 ألف جنيه للفدان، تعويضاً عن الأرض والمباني.
اللافت أن هذا هو السعر نفسه الذي حددته الحكومة لتعويض أهالي منطقة "علم الروم" التي دخلت بدورها في نطاق استثمار جديد لصالح شركة "الديار القطرية" بعقد قيمته 29.7 مليار دولار، على بعد نحو 12 كيلومتراً فقط من خليج الغرام.
هذه الوقائع تأتي متزامنة مع ما كشفته "إنتربرايز" عن خطط شاملة على امتداد 400 كيلومتر في الساحل الشمالي، ومع إعلان إخلاء خليج الغرام، ما يدفع إلى التساؤل: "ماذا وراء التحولات الكبرى في الساحل الشمالي الغربي لمصر؟"؛ هل هي فقط مشاريع تطوير عقاري وسياحي، أم جزء من هندسة جيوسياسية جديدة للمنطقة؟
قراءة استراتيجية: تدويل الحدود وتفكيك السيادة
في قراءة أوسع، يرى الباحث المصري مصطفى خضري أن ما يحدث في مطروح يتجاوز بكثير منطق التطوير العقاري، ويمسّ عمق التحولات الجيوسياسية في المنطقة. يربط خضري بين الجغرافيا والسياسة، مستحضراً حساسية الساحل الشمالي الغربي المجاور لشرق ليبيا، حيث مشروع خليفة حفتر، والعلاقة الوثيقة بين القاهرة وأبوظبي في هذا الملف.
من زاويته، تفريغ مناطق شاسعة بين رأس الحكمة وشاطئ الغرام وإعادة تخطيطها بتمويل خليجي يحقق هدفاً أمنياً يتمثل في استبدال التجمعات السكانية المحلية والقبلية بمدن ومشروعات مغلقة يسهل التحكم فيها أمنياً ورقمياً، بما يقلل فرص التهريب والتسلل عبر حدود ليبيا الملتهبة.
يتحدث خضري عن تكامل اقتصادي-سياسي بين الساحل المصري وشرق ليبيا، وتحويل المنطقة إلى مجال نفوذ واحد، يتقاطع فيه الاستثمار العقاري مع مشاريع إعادة الإعمار المستقبلية في برقة تحت سيطرة نفس التحالف الإقليمي. كما يشير إلى أن تطوير مطار العلمين وميناء جرجوب لا يخدم السياحة فقط، بل يرسخ قواعد إمداد لوجستي تدعم نفوذ "السيسي – بن زايد" في الملف الليبي كخطة بديلة حال تعثر التسوية هناك:
ويطرح سيناريو "منطقة عازلة دولية مقنّعة"، عبر بناء مدن عالمية ومستوطنات فاخرة بتمويل دولي يجعل أي اضطراب قادم من ليبيا اعتداءً على استثمارات دولية، يستدعي تلقائياً حماية أو تدخلاً دولياً، فتتحول الدولة المصرية بحكم الواقع إلى "حارس أمن" لمصالح كبرى أكثر من كونها مالكاً مطلقاً للأرض والسيادة.
ضمن هذا الإطار، يتوقع خضري أن يتحول الساحل الشمالي الغربي خلال خمس سنوات إلى إقليم شبه مستقل اقتصادياً، يرتبط بشرق ليبيا أكثر من ارتباطه بالداخل المصري، وتذوب فيه الحدود التقليدية أمام تدفقات المال والسلاح والخدمات.
تصفية السيادة المصرية
كتبت خبيرة التخطيط الاستراتيجي سالي صلاح، قائلة عبر صفحته بـ"فيسبوك": "مرسى مطروح تحت الإخلاء العسكري"، مشيرة إلى "تهجير مُلاك المنطقة رغم ما لديهم من عقود رسمية لصالح الهيدروجين الأوروبي"، محذرة من "تصفية السيادة المصرية من بوابة المشروع القومي".
وترى أن "ما يحدث بمرسى مطروح ليس حدثا عقاريا منعزلا، ولا تطويرا سياحيا بريئا، بل ذروة نموذج منهجي بدأ في الوراق، مر بـرأس الحكمة وعلم الروم، وصولا إلى كورنيش النيل، ويستقر بخليج الغرام، كأبرز معاقل السيادة الجغرافية والاقتصادية بغرب مصر".
الأمن القومي والذاكرة الوطنية
وتساءل مصريون غاضبون من تلك الأنباء، قائلين: "بعد طرح شاطئ الغرام أمام المستثمرين الخليجيين، هل أصبحت سواحلنا على البحر المتوسط محمية خليجية؟، ولماذا يتم بيع الذاكرة الوطنية للمصريين؟".
وأضافوا: "بعد بيع رأس الحكمة وعلم الروم وشاطئ الغرام وغيرهم، لماذا لا تترك الحكومة مساحة عدة كيلو مترات على البحر للمصريين الذين يصدمهم إعلانات الحملات المسعورة لاستثمارات العرب بالسواحل الشمالية والبحر الأحمر؟"،
وأعرب البعض عن مخاوفه من بيع "شواطئ ومساحات شاسعة لدول أخرى، وعمل قوانين خاصة بها، ومشاريع عملاقة لغير المصريين وبأسعار لا تناسب ٩٠ بالمئة من الشعب؟"، منتقدين أن "بيع شرق مرسى مطروح (رأس الحكمة"، وغربها (علم الروم)، و(شاطئ الغرام)، رغم أنها تمثل أمن قومي كونها متاخمة للحدود الليبية الملتهبة بالصراع".

