في محاولة يائسة لتجميل وجه نظام قمعي تلاحقه التقارير الدولية وتوصيات الأمم المتحدة، أصدر المجلس القومي لحقوق الإنسان تقريره السنوي الثامن عشر، الذي جاء بمثابة "شهادة طبية" مرتبكة، تعترف بوجود "المرض" لكنها ترفض تشخيصه بـ"السرطان". حاول التقرير، الذي يغطي فترة سوداء من تاريخ مصر الحقوقي، أن يقدم صورة "متوازنة" زائفة، فامتدح بـ"خجل" قرارات عفو رئاسي وقوانين شكلية، بينما مرَّ على جرائم التعذيب والقتل داخل السجون وتدوير المعتقلين مرور الكرام، واصفاً إياها بـ"التحديات".

 

هذا التقرير لا يمثل "تقدماً محرزاً" كما يدعي، بل هو في حقيقته "شهادة وفاة" معلنة لدور المجلس نفسه، الذي تحول من هيئة رقابية إلى "مكتب علاقات عامة" للسلطة، مهمته تبرير الانتهاكات وامتصاص الغضب الدولي، بينما يئن آلاف المصريين في السجون وتُكمم الأفواه وتُصادر الحريات.

 

اعترافات متأخرة وفضائح تحت السجادة

 

أخطر ما في التقرير ليس ما قاله، بل ما حاول إخفاءه بين السطور. فعندما يعترف المجلس بوجود "وفيات داخل أماكن الاحتجاز"، ويشير على استحياء إلى واقعة مقتل الشاب محمود ميكا في قسم شرطة الخليفة، فهو لا يدين الجريمة، بل يكتفي بالمطالبة بـ "تحقيق شفاف"، وكأن دماء المواطنين مجرد ملف إداري.

 

وفي هذا السياق، يرى حسام بهجت، المدير التنفيذي للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن المجلس يتنازل عن صلاحياته بشكل فاضح، قائلاً: "المجلس يذكر أنه زار سجن المحامية هدى عبد المنعم وطلب مقابلتها، لكنه يكتفي بالإشارة إلى السماح له بالاطلاع على ملفها الطبي فقط، دون أن يدين منعه من لقائها المباشر، وهو تنازل غريب عن صلاحياته القانونية يحوله إلى شاهد زور".

 

ويضيف جمال عيد، مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، أن دور المجلس بات وظيفياً لخدمة السلطة، معلقاً: "هذا التقرير هو الدليل القاطع على أن المجلس القومي تحول إلى جزء من الأزمة لا جزء من الحل. اعترافه بـ 200 شكوى تعذيب دون أن يملك آلية واحدة لمحاسبة الجناة هو إدانة ذاتية. المجلس أصبح مجرد 'محلل شرعي' لجرائم النظام، يوثق الانتهاكات في تقارير لا يقرأها أحد، ثم يغلق الملف"

 

تجميل القوانين القمعية.. "شهادة زور" قانونية

 

يحتفي التقرير بصدور قوانين مثل "الإجراءات الجنائية"، ثم يعود في فقرة تالية ليبدي "قلقه" من بعض مواده التي تمنح النيابة سلطات واسعة في مراقبة الاتصالات وتفتيش المواطنين، في تناقض صارخ يفضح محاولاته لإرضاء السلطة والمجتمع الدولي في آن واحد.

 

ويعلق على ذلك المستشار السابق محمود الخضيري، أحد رموز استقلال القضاء، بقوله: "هذه ليست مراقبة، بل هي شهادة زور قانونية. كيف يمكنك أن ترحب بقانون ثم تنتقد مواده الجوهرية التي تنسف ضمانات المحاكمة العادلة؟ كان يجب على المجلس أن يرفض هذا القانون برمته، لأنه يشرعن للمراقبة الجماعية ويجعل من سلطة الاتهام خصماً وحكماً. مطالبته بتعديل تعريف التعذيب في قانون العقوبات هي أسطوانة مشروخة عمرها 50 عاماً، يكررونها فقط للاستهلاك الخارجي".

 

هذا النفاق القانوني يمتد إلى ملف حرية الصحافة، حيث يذكر التقرير اسم رسام الكاريكاتير أشرف عمر كنموذج للحبس الاحتياطي المطول، لكنه يتجاهل آلاف المعتقلين السياسيين. وفي هذا الصدد يقول نقيب الصحفيين خالد البلشي: "الحديث عن اعتقال صحفي واحد هو محاولة لتقزيم الكارثة. الكارثة هي في استمرار الحبس الاحتياطي كعقوبة، وفي 'تدوير' الزملاء على قضايا جديدة، وفي حجب عشرات المواقع الصحفية بقرارات أمنية خارج القانون. التقرير لم يجرؤ على مطالبة السلطة برفع يدها عن الإعلام، بل اكتفى بتوصيات باهتة لا قيمة لها".

 

الحقوق الاقتصادية.. ميزانية للتجميل لا لمواجهة الفقر

 

يقع التقرير في فضيحة مدوية عند حديثه عن "الحقوق الاقتصادية"، حيث يشيد بارتفاع مخصصات الصحة والتعليم في الموازنة، ثم يعترف في موضع آخر بعدم تقييمه لمؤشرات الإنفاق الفعلي.

 

وهنا يفجر حسام بهجت قنبلة أخرى في وجه المجلس قائلاً: "التقرير يتجاهل عمداً تصريحات رئيس الجمهورية نفسه التي يؤكد فيها عجز الدولة عن الوفاء بالنسب الدستورية المقررة للإنفاق على الصحة والتعليم. فكيف يشيد المجلس بما يعترف رأس الدولة بالفشل في تحقيقه؟ هذا تناقض صارخ يكشف أن التقرير يُكتب لإرضاء السلطة لا لخدمة الحقيقة".

 

ويضيف بهجت أن التقرير كشف عن ارتفاع ميزانية المجلس نفسه إلى 75 مليون جنيه، وهو رقم ضخم لا يتناسب إطلاقاً مع "نشاطه المتواضع" وغيابه عن القضايا الحيوية التي تمس المواطنين.

 

ويشاركه الرأي الخبير الاقتصادي الدكتور ممدوح الولي، الذي يرى أن التقرير يتجاهل أصل الداء، قائلاً: "أي حقوق اقتصادية تلك التي يتحدث عنها التقرير بينما التضخم قد أكل أجور المصريين؟ الحقوق الاقتصادية الحقيقية تبدأ بكبح جماح الأسعار وتوفير وظائف لائقة ووقف نزيف بيع أصول الدولة، لا بإصدار قوانين 'ضمان اجتماعي' تحول المواطن إلى متسول على أبواب الحكومة. التقرير يهرب من مواجهة الأسباب الحقيقية للفقر الذي تسببت فيه سياسات النظام الاقتصادية الفاشلة".

 

في النهاية، يظهر تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان كوثيقة رسمية تدين أداءه قبل أن تدين السلطة، وتؤكد للمجتمع الدولي والمصريين أن هذه المؤسسة باتت "خارج الخدمة"، وأن البحث عن حقوق الإنسان في مصر يجب أن يتم خارج أسوارها وغرفها المغلقة.