في مشهد يتكرر بوتيرة مأساوية في قرى الصعيد المنسية، لقيت جدة وحفيدتها مصرعهما تحت أنقاض منزلهما المبني من الطوب اللبن، في واقعة جديدة تفضح حجم الإهمال الذي يعانيه الريف المصري، حيث يعيش آلاف المواطنين في منازل آيلة للسقوط، تهدد حياتهم كل لحظة، بينما تنشغل الحكومة بمشروعاتها الخرسانية الضخمة في العاصمة الجديدة. حادثة قرية الصياد بنجع حمادي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ما لم تتحرك الدولة بجدية لإنقاذ هؤلاء البشر الذين لا يملكون حق السكن الآمن في وطنهم.
تفاصيل الكارثة: لحظات الرعب في قرية الصياد
صباح الأربعاء 26 نوفمبر 2025، تحولت قرية الصياد التابعة لمركز نجع حمادي شمال محافظة قنا إلى مسرح لمأساة إنسانية مروعة. بدأت القصة عندما تلقت غرفة العمليات بمديرية أمن قنا إخطارًا عاجلاً يفيد بانهيار منزل قديم مبني من الطوب اللبن ومكون من طابقين. على الفور، تحركت قوات الحماية المدنية بقيادة العميد تامر سعيد، وسيارات الإسعاف، وفرق الإنقاذ المتخصصة إلى موقع الحادث، في محاولة لانتشال أي ناجين أو ضحايا من تحت الركام.
عند وصول الفرق إلى الموقع، كان المشهد مروعًا؛ منزل تحول إلى كومة من الأنقاض والتراب، وسط صراخ الأهالي وحالة من الهلع. الشهود أكدوا أن المنزل كان مأهولاً بالسكان لحظة الانهيار، مما ضاعف من حجم المأساة وأثار مخاوف من وجود ضحايا تحت الأنقاض.
جهود مضنية تنتهي بانتشال جثتين
استمرت عمليات البحث والتمشيط لساعات طويلة، حيث عملت فرق الإنقاذ بكامل طاقتها لرفع الأنقاض الثقيلة بحثًا عن المفقودين. وبعد جهود مضنية، تمكنت القوات من انتشال جثتين من تحت الركام.
الضحيتان كانتا:
بخيتة. ع. س (70 عامًا): الجدة المسنة التي قضت تحت أنقاض منزلها الذي عاشت فيه عمرها.
زهرة. م (5 أعوام): الحفيدة الصغيرة التي لم تكمل عامها السادس، وودعت الحياة بطريقة مأساوية تحت الطوب والطين.
تم نقل الجثمانين فورًا بواسطة سيارات الإسعاف إلى مشرحة مستشفى نجع حمادي العام، حيث وُضعا تحت تصرف النيابة العامة لإجراء الفحوص اللازمة واستخراج تصاريح الدفن.
الإجراءات القانونية: تحقيقات روتينية في مأساة متكررة
فور وقوع الحادث، حررت الأجهزة الأمنية محضرًا تفصيليًا بالواقعة، وأُخطرت النيابة العامة التي باشرت التحقيق فورًا لكشف ملابسات الانهيار وتحديد المسؤوليات. وفي إطار التحقيقات، أصدرت النيابة عدة قرارات تضمنت:
تكليف إدارة البحث الجنائي بتكثيف التحريات حول أسباب الانهيار، والتحقق من وجود أي إهمال أو تقصير.
تشكيل لجنة هندسية متخصصة من الوحدة المحلية لمركز ومدينة نجع حمادي لمعاينة المنازل المجاورة، خاصة تلك المبنية بالطوب اللبن، والتأكد من سلامتها الإنشائية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستكتفي الدولة بهذه الإجراءات الروتينية؟ أم أن هذا الحادث سيكون دافعًا حقيقيًا لوضع خطة شاملة لإنقاذ آلاف الأسر التي تعيش في منازل مماثلة؟
جذور الأزمة: الفقر وغياب الدولة
ما حدث في قرية الصياد ليس حادثًا معزولًا، بل هو نتيجة حتمية لسنوات من الإهمال الحكومي وتراجع الاهتمام بالريف المصري. منازل الطوب اللبن، التي يعود بناء معظمها لعقود طويلة، أصبحت "قنابل موقوتة" تهدد حياة ساكنيها، خاصة مع غياب أي برامج صيانة أو ترميم حقيقية.
الأسر الفقيرة في هذه القرى لا تملك المال لبناء منازل جديدة من الطوب الأحمر أو الخرسانة المسلحة، وبالتالي تظل محاصرة داخل بيوت متهالكة، تنتظر اللحظة التي قد تنهار فيها فوق رؤوسهم. هذا الواقع المرير يعكس فجوة هائلة بين "مصر الجديدة" التي تبنى في الصحراء، و"مصر المنسية" التي تموت ببطء في قرى الصعيد.
صرخة تحذير: كم من "بخيتة وزهرة" يجب أن يموتن؟
حادثة نجع حمادي تطرح سؤالاً أخلاقيًا وسياسيًا: إلى متى ستظل الدولة تكتفي بإرسال فرق الإنقاذ بعد وقوع الكوارث، بدلاً من منع حدوثها من الأساس؟ كم من الأرواح البريئة يجب أن تُزهق تحت الأنقاض حتى تتحرك السلطات لوضع خطة جذرية لهدم وإعادة بناء أو ترميم هذه المنازل الخطرة؟
الدولة التي تنفق مليارات الجنيهات على مشروعات "البريستيج"، لا يمكن أن تدعي العجز عن توفير سكن آمن لمواطنيها في الريف. إن موت جدة وطفلة في منزل من الطين ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتيجة مباشرة لسياسات فاشلة ولامبالاة رسمية بحياة البسطاء. وما لم تحدث صحوة ضمير في أروقة السلطة، فإن "بخيتة وزهرة" لن تكونا آخر الضحايا.

