تحولت الإسكندرية إلى مقبرة جماعية مفتوحة، حيث يعيش سكانها تحت سيف الموت المعلق فوق رؤوسهم في شكل عقارات متهالكة تنتظر لحظة الانهيار.
صباح أمس الجمعة، انهار عقار مكون من 4 طوابق في منطقة اللبان بحي الجمرك، في مشهد متكرر بات يومياً في عروس المتوسط التي تحولت إلى عروس الموت.
العقار كان صادراً له قرار هدم كلي لم يُنفذ، في دليل صارخ على الفشل الحكومي المنظم الذي يحول حياة المصريين إلى رهان يومي بالبقاء.
أرقام الكارثة: 7 آلاف عقار قنبلة موقوتة
الأرقام الرسمية تكشف حجم الجريمة المستمرة بحق سكان الإسكندرية. هناك أكثر من 6 آلاف عقار خطر وآيل للسقوط، و160 عقاراً مائلاً، فضلاً عن 133 ألف قرار إزالة صادر ضد مبانٍ مخالفة لم يتم تنفيذها لسنوات.
بحسب بيانات مجلس الوزراء، تم حصر 7,500 عقار "آيل للسقوط" صدرت لها قرارات إزالة حتى يوليو 2025، بينما تشير تقديرات برلمانية إلى وجود 26,000 عقار قديم وآيل للسقوط في الأحياء العتيقة.
الأخطر من ذلك، أن 60,000 وحدة سكنية تحتاج إلى تنكيس أو إصلاحات جزئية، و7,000 عقار مهدد بالانهيار نتيجة الإهمال والعوامل البيئية.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي أرواح بشرية معلقة بين الحياة والموت، بينما تتفرج السلطات على المأساة دون تحرك حقيقي.
مسلسل الدم المستمر: 231 حادثة في عامين ونصف
خلال الفترة من يناير 2021 حتى منتصف يوليو 2023، وقعت 231 حادثة انهيار كلي أو جزئي في 7 أحياء بالإسكندرية، راح ضحيتها 62 شخصاً وأصيب 88 آخرون. في 16 شهراً فقط حتى أبريل 2025، سقط 43 عقاراً، بينما شهد النصف الأول من عام 2023 وحده 22 حادثة انهيار أسفرت عن مقتل 12 شخصاً وإصابة 14 آخرين.
هذه الوتيرة المتسارعة تكشف عن فشل ذريع في اتخاذ إجراءات وقائية، وتحول المواطنين إلى وقود لمسلسل الإهمال الحكومي.
رغم أن الأحياء تنفذ مئات قرارات الإزالة سنوياً، إلا أن وتيرة المخالفات والتقاعس عن تنفيذ أوامر الترميم والهدم تظل أسرع، في دليل على انهيار منظومة الرقابة والمحاسبة. المواطنون يدفعون ثمن الفساد والإهمال بأرواحهم، بينما المسؤولون يكتفون بإصدار البيانات والتصريحات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ملفات الفساد المسكوت عنها في الإدارات الهندسية
يؤكد الدكتور حمدي عرفة، أستاذ الإدارة المحلية، أن الأزمة لن تتوقف حتى يتم فتح ملفات فساد الإدارات الهندسية التابعة للإدارات المحلية على مستوى الجمهورية، مشيراً إلى رصد 3 ملايين و240 ألف عقار مخالف خلال 9 سنوات.
هذا الرقم الصادم يكشف عن منظومة فساد متجذرة تحول البناء العشوائي إلى صناعة مربحة للمسؤولين الفاسدين.
يطالب عرفة بإعادة هيكلة الإدارات الهندسية، بداية من إيقاف نقل وإلغاء ندب حملة الدبلومات الفنية للإدارات الهندسية، مؤكداً أن الإدارات المحلية تتحمل المسؤولية كاملة عن زيادة البناء العشوائي والمخالف في ظل غياب الرقابة والمتابعة اللازمة.
كما يدعو إلى ضرورة الإسراع في إقرار تعديلات لقانون البناء الموحد رقم 119 لسنة 2008، محذراً من أن تأخر تعديل القانون يؤدي إلى زيادة العقارات المخالفة بطريقة غير مباشرة.
التلاعب والإهمال: جذور الكارثة المتكررة
توضح الدكتورة سهير حواس، أستاذ التصميم العمراني بكلية الهندسة جامعة القاهرة، أن انهيار العقارات يحدث نتيجة التلاعب في البناء أو انهيار الحوائط أو الأساسات التي يرتكز عليها العقار.
تؤكد حواس أن المباني القديمة لا تنهار إلا بأسباب واضحة، إما نتيجة انهيار في التربة أو في أحد الجدارات الأساسية، مطالبة بضرورة المحافظة على صيانة العقارات بشكل دوري لضمان سلامة المباني القديمة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف يُطلب من مواطنين يعانون من الفقر والتهميش أن يصونوا عقارات قديمة، بينما الدولة تتقاعس عن تنفيذ قرارات الإزالة الصادرة منذ سنوات؟
الصيانة الدورية تتطلب موارد مالية وإشرافاً حكومياً، لكن السلطات تكتفي بإلقاء المسؤولية على المواطنين وتركهم يواجهون مصيرهم المحتوم.
البعد البيئي: تهديد إضافي يتجاهله النظام
إلى جانب الفساد والإهمال، تلعب عوامل المناخ دوراً متزايد الخطورة في تهديد سلامة المباني.
تآكل الشواطئ وارتفاع منسوب المياه الجوفية نتيجة التغيرات البيئية وذوبان الجليد يهددان أساسات المباني القريبة من البحر، مما يضيف بعداً بيئياً معقداً للأزمة.
لكن النظام الذي يعجز عن تنفيذ قرارات إزالة عقارات خطرة، يبدو غير مبالٍ بالتهديدات البيئية طويلة المدى.
الخلاصة المؤلمة: سكان الإسكندرية يعيشون في مدينة أصبحت قنبلة موقوتة، حيث كل عقار قديم قد يتحول في أي لحظة إلى مقبرة جماعية.
النظام الذي يدعي الإنجازات الكبرى يعجز عن حماية مواطنيه من الموت تحت الأنقاض، في فضيحة إنسانية وإدارية تكشف حجم الفشل المريع لحكومة الانقلاب.

