يواصل المصريون بالخارج مقاطعتهم الساحقة للمرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب 2025، في رسالة واضحة لا لبس فيها لنظام الانقلاب العسكري بأن المسرحية الانتخابية لم تعد تخدع أحداً، بعد الفضائح والخروقات المدوية التي كشفتها المرحلة الأولى وأجبرت الهيئة الوطنية للانتخابات على إلغاء نتائج 19 دائرة انتخابية في 7 محافظات.
انطلق تصويت المصريين بالخارج أمس الجمعة ويستمر اليوم السبت 21-22 نوفمبر، وسط عزوف ومقاطعة كبيرة تكرر المشهد الذي شهدته انتخابات مجلس الشيوخ، حيث ظهرت صناديق الاقتراع فارغة تماماً عدا بطاقة أو بطاقتين في كل صندوق.
المصريون في الخارج، الذين تصفهم الدولة بأنهم "جزء أصيل من النسيج الوطني"، يرفضون المشاركة في مهزلة انتخابية فقدت أي مصداقية بعد ما كشفته المرحلة الأولى من تزوير فاضح.
19 دائرة ملغاة.. اعتراف رسمي بالتزوير
أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات إلغاء نتائج 19 دائرة انتخابية موزعة على 7 محافظات في المرحلة الأولى، بعد رصد مخالفات خطيرة شملت فرزاً مبكراً قبل انتهاء التصويت، وتجاوزات أمام اللجان، ومقاطع مصورة أثارت جدلاً واسعاً. من بين هذه المقاطع، فيديو لمرشح في البحيرة يستغيث بالرئيس، وآخر من دائرة المنتزة بالإسكندرية يوثق فرزاً قبل غلق الصناديق، وهو ما أقرّت به الهيئة التي قررت استبعاد الصندوق المطعون عليه.
هذا الإلغاء ليس اعترافاً بالشفافية، بل هو دليل دامغ على أن التزوير كان منهجياً ومنظماً، وأن ما ظهر ليس إلا قمة جبل الجليد من الفساد الانتخابي. استقبلت المحكمة الإدارية العليا 102 طعن انتخابي في نتائج المرحلة الأولى، في مؤشر واضح على حجم الانتهاكات التي شهدتها العملية الانتخابية.
غياب الإشراف القضائي.. ذريعة لشرعنة التزوير
شهدت المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب أحداثاً غير مسبوقة على صعيد التنظيم الانتخابي، دفعت المراقبين والقضاة السابقين إلى التشكيك في نزاهة العملية الانتخابية بأكملها.
اتضح أن غياب الإشراف القضائي الكامل كان السبب الرئيسي وراء المخالفات التي رافقت الاقتراع في أكثر من دائرة، خاصة في أول تجربة انتخابية تجري بعد تعديل دستور 2014.
اعتمدت الهيئة الوطنية للانتخابات على هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية لإدارة العملية الانتخابية، بدلاً من إشراك القضاة المستقلين على جميع مستويات اللجان.
أكد خبراء قانونيون أن هذا التوجه أدى إلى فقدان كامل للشرعية المؤسسية للهيئة، وجعل العملية الانتخابية عرضة للتجاوزات والمخالفات التي لا يمكن التعامل معها بطريقة فعالة ما لم يكن هناك إشراف قضائي حقيقي.
تلاشي الثقة.. لماذا يقاطع المصريون؟
تلاشت الثقة تماماً لدى الناخبين في أن أصواتهم ستكون لها أي قيمة في ظل حكومة قمعية تسيطر على كل مفاصل الدولة وتستخدم الانتخابات كديكور ديمقراطي أمام المجتمع الدولي.
المصريون، سواء في الداخل أو الخارج، أدركوا أن المشاركة في هذه المسرحية تعني منح الشرعية لنظام استبدادي يرفض أي شكل حقيقي من أشكال التمثيل الشعبي.
العزوف عن التصويت ليس كسلاً أو لامبالاة، بل هو موقف سياسي واعٍ يعبر عن رفض المواطنين لانتخابات مزورة سلفاً.
عندما تظهر صور صناديق الاقتراع في السفارات المصرية فارغة تماماً، فهذا يعني أن المصريين في الخارج، الذين يعيشون في بلدان ديمقراطية ويشهدون انتخابات نزيهة، يرفضون المشاركة في مهزلة لا تحترم إرادتهم.
مرحلة ثانية.. نفس السيناريو ونفس النتائج
يختار الناخبون في الداخل والخارج خلال المرحلة الثانية المرشحين والقوائم بـ13 محافظة هي: القاهرة، القليوبية، الدقهلية، المنوفية، الغربية، كفر الشيخ، الشرقية، دمياط، بورسعيد، الإسماعيلية، السويس، شمال سيناء، وجنوب سيناء.
لكن السؤال المطروح: هل ستكون هذه المرحلة مختلفة عن سابقتها؟
الإجابة واضحة:
أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات أنه "لن يشارك في انتخابات المرحلة الثانية كل من ثبت تقصيره في المرحلة الأولى"، وشددت على أنه "سيتم منع أي دعاية أمام اللجان الفرعية".
لكن هذه التصريحات لا تعني شيئاً في ظل غياب الإشراف القضائي الحقيقي واستمرار الاعتماد على هيئات حكومية خاضعة للسلطة التنفيذية.
مسرحية الإعدادات اللوجستية لا تخفي الفشل
تتباهى الهيئة الوطنية للانتخابات بأنها أعدت 105 مقار للتصويت في الخارج، وأن "لأول مرة يتم مد التصويت للمصريين بالخارج ليومين".
كما تم إعداد غرفة عمليات بمقر وزارة الخارجية تعمل على مدار الساعة بالتعاون مع الهيئة. لكن كل هذه الترتيبات اللوجستية لا تعني شيئاً عندما يكون المواطنون مقتنعين بأن أصواتهم لن تُحترم وأن النتائج محسومة سلفاً.
الصناديق الفارغة في السفارات المصرية حول العالم تروي القصة الحقيقية: المصريون يرفضون المشاركة في خداع جماعي يهدف إلى إضفاء شرعية ديمقراطية زائفة على نظام استبدادي.
حتى وزير الخارجية الذي أدلى بصوته في واشنطن، مؤكداً أن "الدولة تُولي أهمية كبيرة لتعزيز مشاركة المصريين بالخارج"، لم يستطع إخفاء حقيقة العزوف الجماعي الذي ظهر في الصور المتداولة.
انتخابات بلا مصداقية.. ومستقبل بلا ديمقراطية
مع استمرار الجدل حول نزاهة المرحلة الأولى، تبدو المرحلة الثانية أمام اختبار معقد، في ظل تراكم الملاحظات القانونية، وتوسع الطعون والشكاوى، وتزايد المطالبات بفتح ملفات "أموال الدعاية الانتخابية" والرقابة على العملية. لكن النظام يبدو غير مبالٍ بكل هذه الانتقادات، ويواصل تنفيذ مسرحيته الانتخابية كما لو أن شيئاً لم يحدث.
المطلوب اليوم ليس مجرد إصلاحات تجميلية أو وعود بتحسين الإشراف، بل إعادة بناء كاملة للعملية الانتخابية على أسس من الشفافية والنزاهة والإشراف القضائي المستقل.
لكن هل يمتلك نظام الانقلاب الإرادة السياسية لذلك؟ التاريخ والوقائع تؤكد أن الإجابة هي: لا.
وطالما استمر هذا النهج، فإن المقاطعة والعزوف سيظلان الرد الطبيعي لشعب فقد ثقته في مؤسسات دولة تدعي الديمقراطية بينما تمارس أقصى درجات القمع والتزوير.

