طائرة فاخرة في بلد منهك
وصول الطائرة الرئاسية الجديدة، المعروفة إعلاميًا باسم «ملكة السماء»، إلى مصر جاء في لحظة اقتصادية شديدة القسوة على المواطن، حيث الغلاء يلتهم الأجور، والديون تتضخم، والخدمات الأساسية في تدهور مستمر.
في هذه الأجواء، بدت الطائرة الفاخرة رمزًا فجًا لفجوة هائلة بين حياة الحاكم وحياة المحكومين، وبين خطاب السلطة عن «الصبر والتقشف» وواقع إنفاقها الباذخ على مظاهر الوجاهة.
كثيرون رأوا أن مشهد الطائرة وهي تهبط على مدرج المطار يشبه هبوط قصر متحرك، محاط بهالة من الدعاية، في وقت لم يعد فيه المواطن قادرًا على تأمين احتياجاته اليومية.
صورة السيسي أمام الرأي العام
قرار شراء وتجهيز طائرة بهذه الفخامة والتكلفة رسّخ لدى قطاعات واسعة من المصريين صورة حاكم لا يشعر بمعاناتهم، ولا يرى في الدولة سوى منصة لتأمين رفاهيته الشخصية و«هيبته» أمام العالم.
السيسي الذي كرر خطاب «إحنا فقرا قوي» وطلب من الناس التبرع بفلوسهم، يظهر اليوم وهو يضيف إلى أسطوله طائرة توصف بأنها من أفخم طائرات الرئاسة في العالم، في تناقض صارخ مع كل ما يطالب به الشعب من صبر وتحمّل.
هذا التناقض جعل كثيرين يعتبرون أن حديثه عن الفقر لم يكن إلا أداة لإخضاع الناس وتبرير سياسات التقشف، بينما الحقيقة أن الدولة تنفق ببذخ على ما يخدم صورة السيسي لا حياة المواطنين.
حكومة تنفيذ الأوامر لا حكومة دولة
صفقة «ملكة السماء» كشفت أيضًا أن الحكومة ليست سوى جهاز تنفيذي لإرادة شخص واحد، وليست سلطة تدير دولة بمفهومها المؤسسي.
لم يخرج وزير واحد ليشرح للشعب مبررات الصفقة، ولا ليفتح نقاشًا حول تكلفتها أو جدواها أو أولوياتها في ظل الأزمات المتراكمة. رئيس الحكومة ووزراؤه بدوا كأنهم شركاء صمت، يمررون القرار دون نقاش، ويكتفون بترديد شعارات من نوع «مصر الكبيرة تستحق» و«هيبة الدولة» بينما يختفي تمامًا معيار المصلحة العامة.
هذا السلوك يؤكد أن الحكومة فقدت استقلالها السياسي والأخلاقي، وتحولت إلى سكرتاريا كبيرة تتلقى الأوامر من أعلى، وتتكفل بتجميلها أمام الناس لا بمراجعتها أو موازنتها.
مؤسسات بلا روح ولا رقابة
البرلمان والهيئات الرقابية والإعلام الرسمي جميعها بدت غائبة أو متواطئة أمام هذا الملف، وكأنها مؤسسات بلا روح ولا صلاحيات حقيقية.
لم يشهد الشارع جلسة برلمانية حقيقية تساءل فيها نائب عن التكلفة، أو يربط بين الصفقة وبين ارتفاع الديون ونقص الإنفاق على الصحة والتعليم. ولم يخرج جهاز رقابي ليعلن أنه يراجع العقود أو يراقب الإنفاق أو يحدد المسؤوليات.
حتى الإعلام، بدلاً من أن يطرح الأسئلة الصعبة، اكتفى بنقل لقطات هبوط الطائرة وتعليقات مذيعين يروّجون لفكرة أن الطائرة «إنجاز» و«بشرى للمصريين»، وكأن امتلاك الرئيس لطائرة فاخرة انتصار وطني في حد ذاته.
في ظل هذا الصمت العام، يشعر المواطن أن مؤسسات الدولة كلها واقفة في صف واحد خلف الحاكم، لا خلف الشعب.
غضب وسخرية على السوشيال بدلًا من منابر حرة
مع انسداد المنافذ الرسمية، وجد المصريون في مواقع التواصل الاجتماعي مساحة للتعبير عن غضبهم وسخريتهم من «ملكة السماء».
انتشرت تعليقات لاذعة تربط بين ثمن الطائرة وبين عجز الأسر عن دفع مصاريف المدارس أو العلاج أو الإيجار، وهاشتاغات تتساءل: كيف نكون «فقراء» والدولة تشتري طائرة بنصف مليار دولار أو أكثر؟
كثير من المستخدمين استخدموا السخرية كسلاح، فتمنوا أن يكون مصير الطائرة كمصير تيتانيك، أو وصفوها بأنها «قصر طائر» يهرب فيه الرئيس من مواجهة شعبه.
هذه الموجة تعكس فجوة ثقة عميقة بين المجتمع والنظام، وشعورًا بأن القرار لا يُتخذ باسم الشعب بل رغماً عنه، وأن ثمن البذخ الرئاسي سيدفعه الناس من جيوبهم ولقمة عيش أولادهم.
انتشرت تعليقات ساخرة من نوع «اللهم اجعلها مثل سفينة تيتانيك» في فيديوهات ومنشورات حققت انتشارًا واسعًا، مركزة على ثمن الطائرة الذي يقترب من 500 مليون دولار.
السخرية طالت أيضًا تبريرات الإعلام الموالي، إذ رأى مستخدمون أن خطاب «هيبة الدولة» مجرد غطاء لبذخ شخصي على حساب لقمة عيش الناس.
وأخيرًا.. ملكة السماء فوق وطن مُثقل بالديون
قصة «ملكة السماء» ليست مجرد صفقة طائرة جديدة، بل مرآة لنمط حكم كامل بناه السيسي وحكومته على شخصنة الدولة، وإضعاف المؤسسات، وتقديم رفاهية الحاكم على كرامة المواطن.
بينما تحلّق الطائرة في السماء كرمز لوجاهة السلطة، يبقى ملايين المصريين على الأرض تحت خط الفقر، محاصرين بالضرائب ورفع الدعم وتآكل الأجور وغياب الأمل.
استمرار هذا المسار يعني مزيدًا من الاحتقان وفقدان الثقة، فشعب يرى رئيسه يطير بطائرة أسطورية فوق أوجاعه لن يصدق بعد اليوم أي خطاب عن «التقشف» أو «مصلحة الوطن».
ما لم يُحاسَب السيسي وحكومته سياسيًا وأخلاقيًا على هذا النوع من القرارات، وما لم تستعد المؤسسات دورها في الرقابة والشفافية، ستظل «ملكة السماء» عنوانًا لفجوة مخيفة بين نظام يعيش في سمائه الخاصة ووطن يزداد غرقًا في أزماته.

