لم يعد غريبًا أن يتحوّل أي مشروع حكومي في مصر إلى ملحمة إعلامية ترويجية يقودها مذيعو النظام، يتبادلون فيها أدوار المديح والتطبيل وكأنهم موظفون في وزارة الدعاية.

أحدث الأمثلة جاء هذه المرة من الإعلامي أحمد موسى، أحد أبرز الأصوات المقرّبة من السلطة، الذي خرج على متابعيه عبر منصة إكس (تويتر سابقًا) ليحوّل افتتاح المتحف المصري الكبير إلى مهرجان شخصي للتمجيد السياسي، ممتدحًا كل من شارك في المشروع، من حسني مبارك وزوجته سوزان مرورا بالمشير طنطاوي إلى عبد الفتاح السيسي، في مشهد يُجسّد جوهر الإعلام المصري الرسمي اليوم: غياب النقد، وحضور المديح بوصفه منهجًا.
 

من حدث ثقافي إلى دعاية للعسكر
كان يفترض أن يشكّل افتتاح المتحف المصري الكبير مناسبةً للاحتفاء بالعلماء والمهندسين والمرمّمين الذين أنجزوا واحدًا من أكبر المشاريع الثقافية في الشرق الأوسط.
لكن أحمد موسى قرر تحويل الحدث إلى عرضٍ دعائي طويل يبدأ وينتهي عند “القائد الملهم”.

في منشوره الذي صاغه بحماسةٍ مفرطة، كتب موسى أن “مصر فرحانة والعالم كله فرحان معانا”، وكأن البشرية بأكملها تنتظر برنامجه على الهواء الساعة الرابعة عصرًا.

وعد الجمهور بـ“حلقة استثنائية” تكشف لأول مرة أسرار اختيار موقع المتحف، ومن حضر الاجتماعات، وما قاله حسني مبارك للمشير طنطاوي، في خلطٍ ساذجٍ بين العمل الأثري والولاء السياسي، وبين ما يجب أن يكون شأنًا عامًا وما يتحول إلى رواية تمجيد للسلطة.
 

شكرٌ جماعي... بلا منطق ولا ترتيب
في منشوره المطوّل، وجّه موسى الشكر إلى كل من مرّ على السلطة خلال العقود الأربعة الأخيرة:
“شكرًا للسيسي، شكرًا لمبارك، شكرًا لسوزان مبارك، شكرًا لفاروق حسني، شكرًا ، شكرا لطنطاوي ولسواعد المصريين”.
فكأن الرجل أراد أن يضمن رضا الجميع، فيجمع بين عهدي مبارك والسيسي في مديح واحد، متجاهلًا السياق التاريخي والسياسي، ومحوّلًا التاريخ إلى قائمة شكر بلا معنى.

وبدلًا من الإشارة إلى المشاكل التي عطلت المشروع لسنوات، وإلى تضارب التمويل الياباني والمصري، أو سوء الإدارة الذي رفع التكلفة إلى مليارات الجنيهات، اختار موسى أن يتجاهل كل الحقائق ويقدّم “نسخة رسمية من التاريخ” وفق ما يناسب النظام.

 

الاحتفال بالإنجاز... دون محاسبة للتأخير
منذ بداية مشروع المتحف المصري الكبير عام 2002، تغيّرت الحكومات والوزراء، وتأخّر الافتتاح مرارًا بسبب ضعف التمويل وسوء التخطيط.
لكن موسى لم يتطرّق إلى أيٍّ من ذلك، ولم يسأل لماذا تأخر الافتتاح أكثر من عشرين عامًا أو كيف تضاعفت التكلفة من 550 مليون دولار إلى أكثر من مليار دولار.

بدلًا من ذلك، اختار أن يحوّل المشروع إلى “هدية الرئيس السيسي للعالم”، متجاهلًا أن المشروع أُطلق في عهد مبارك، وواجه انهيارًا إداريًا بعد الثورة، ثم أعيد استكماله بتمويل دولي.
هذه الانتقائية ليست سهوًا صحفيًا، بل سياسة إعلامية مقصودة: إخفاء الإخفاقات واحتكار الإنجازات باسم السلطة.
 

من المذيع إلى المُمجّد
يُقدّم أحمد موسى نموذجًا فاضحًا لما وصل إليه الإعلام المصري من تبعية كاملة للسلطة التنفيذية.

فالرجل لا يمارس دور الصحفي أو الإعلامي الذي يسائل ويحلّل، بل يلعب دور “المُروّج الرسمي”، الذي يُعيد إنتاج الخطاب الحكومي بنفس المفردات وبنغمة عاطفية عالية.
أسلوبه في الكتابة المليء بعلامات التعجب والمدود (“شكررررًااااا يا مصر”) يكشف انحدار الخطاب الإعلامي إلى لغة شعبوية سطحية تُخاطب العاطفة لا العقل، وتستبدل المعلومة بالهتاف.

ومن المدهش أن مذيعًا بحجمه لا يرى حرجًا في الحديث عن “فيديوهات حصرية ستُدهش العالم”، وكأن برنامج أحمد موسى بات وسيلة لقياس الانبهار العالمي بمصر.
 

الإعلام الوطني أم إعلام الولاء؟
لم يكن منشور أحمد موسى حالة فردية، بل امتدادًا لطريقة تعاطي الإعلام الرسمي مع أي حدث كبير في مصر، حيث يتم إفراغ الإنجازات من مضمونها المهني والعلمي وتحويلها إلى مواد سياسية تخدم النظام الحاكم.

هذه الصيغة تُضعف الوعي العام وتُفقد الجمهور الثقة في وسائل الإعلام، لأنها لا تقدّم معلومات دقيقة ولا تحليلًا موضوعيًا، بل تُكرّس لثقافة “الزعيم الأبدي” الذي يبدأ وينتهي عنده كل شيء.
فبدلًا من الحديث عن العائد السياحي المتوقع من المتحف، أو دوره العلمي والثقافي، ركّز موسى على من حضر الاجتماعات ومَن قال “ابدأوا المشروع”، ليختزل منجزًا حضاريًا في صورة ولاء شخصي للرئيس.
 

بين الوهم الإعلامي والواقع الصامت
المنشور الذي كتب أحمد موسى يُلخّص أزمة الإعلام المصري في عصر ما بعد الثورة: إعلامٌ بلا مساءلة، وصوتٌ بلا مضمون، واحتفاءٌ متواصلٌ بلا منجز حقيقي.
المتحف المصري الكبير مشروع حضاري ضخم بلا شك، لكنه ليس ملكًا للرئيس ولا لمذيعيه، بل هو نتاج جهد آلاف المصريين والعلماء والمهندسين الذين عملوا في صمتٍ لسنوات طويلة.

أما أن يُقدَّم المشروع على أنه “هدية القائد للعالم” فذلك هو جوهر صناعة الوهم التي يُتقنها إعلام السلطة، حيث تتحول كل مناسبة إلى إعلانٍ جديد عن “عظمة الزعيم”، بينما يظل المواطن متفرجًا على مشهدٍ من التصفيق المستمر.
في النهاية، لم يكن منشور أحمد موسى إلا مرآةً تُظهر إعلامًا فقد البوصلة والضمير المهني، وبدل أن يُنير الوعي، اختار أن يعيش في “أحلام يقظة” يظنّ فيها أن العالم ينتظر حلقته القادمة في الرابعة عصرًا.