لم تعد سماء السودان مجرّد فضاء للطائرات المدنية أو الغيوم الموسمية، بل تحوّلت إلى ساحة حرب مفتوحة بين الجيش وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) المدعومة من الاحتلال الاماراتي، في مشهدٍ يعكس انتقال الصراع من الميدان إلى الجوّ، عبر حرب المسيّرات التي غيّرت موازين القوى وفرضت معادلات جديدة في معركة “الخرطوم مقابل نيالا”.
ففي حين يواصل الجيش السوداني تقدمه الميداني، تشنّ قوات الدعم السريع هجماتٍ متكرّرة بطائراتٍ مسيّرة على مواقع عسكرية ومدنية في العاصمة ومدن أخرى، في محاولة لإعادة فرض واقعٍ ميداني بعد خسائرها المتتالية في دارفور وكردفان.
معادلة “الخرطوم مقابل نيالا”.. حرب بطائرات دون طيار
تصاعدت وتيرة استخدام المسيّرات في الصراع السوداني خلال الأشهر الأخيرة، إذ كثّف الجيش ضرباته الجوية ضد معاقل “الدعم السريع” في إقليم دارفور، لا سيما في مدينتَي نيالا والجنينة، بينما ردّت المليشيا بهجماتٍ مماثلة استهدفت الخرطوم ومدن الأبيض وكوستي وسنار.
وشهد صباح الثلاثاء الماضي أعنف هذه الضربات، حين استهدفت مسيّرات “الدعم السريع” مطار الخرطوم الدولي بعد ساعات فقط من إعلان السلطات نيتها إعادة تشغيله للرحلات الداخلية لأول مرة منذ أبريل 2023.
شهود عيان أكدوا سماع دويّ انفجاراتٍ ضخمة في محيط المطار، فيما أعلنت سلطة الطيران المدني أن الهجمات لم تُسفر عن خسائر بشرية، مؤكدة استمرار خطط إعادة تشغيل المطار تدريجيًا.
غير أن القصف المتكرر للمطار لليوم الثالث على التوالي ألقى بظلالٍ كثيفة على مستقبل الطيران المدني، وأعاد إلى الأذهان هشاشة الوضع الأمني في قلب العاصمة التي تحاول النهوض من رماد الحرب.
من دارفور إلى الخرطوم.. تصعيد متبادل وتبدّل في موازين القوى
منذ أن استعاد الجيش السيطرة على ولاية الخرطوم في إبريل الماضي، كثّف هجماته الجوية ضد مواقع “الدعم السريع” في دارفور، مستهدفًا معسكرات التدريب ومستودعات السلاح في نيالا والجنينة.
وقال مصدر عسكري إنّ "الجيش استخدم مسيّرات استراتيجية لضرب أهداف نوعية"، في حين ردّت “الدعم السريع” بهجماتٍ انتحارية بطائرات صغيرة استهدفت معسكرات الجيش ومناطق مدنية في العاصمة.
ويؤكد مراقبون أن هذه الهجمات “لا تغيّر ميدانيًا”، لكنها تحمل رمزية سياسية تهدف إلى إثبات الوجود، ورفع معنويات أنصار “الدعم السريع” بعد سلسلة انتكاسات ميدانية.
الضابط المتقاعد حسن إبراهيم أوضح أن قوات حميدتي “تحاول حماية نيالا باعتبارها عاصمة لحكومتهم الموازية”، وأن استهداف الخرطوم يهدف إلى إجبار الجيش على وقف غاراته في دارفور. أما الصحافي محمد محمود، فيرى أن التصعيد الجوي “يأتي في ظل انحسار المعارك البرية، ما يعكس محاولة الطرفين تحسين شروط التفاوض المتوقع برعاية اللجنة الرباعية”.
البرهان يتوعد والخرطوم تقاوم
في أعقاب الهجوم على المطار، زار رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان موقع القصف، وأكد أن “الجيش سيقضي على التمرد ولن يكون هناك مكان للمرتزقة في مستقبل السودان”.
تصريحات البرهان جاءت ردًا مباشرًا على تهديدات حميدتي، الذي توعّد باستهداف أي مطار تقلع منه طائرات الجيش أو “أي دولة جارة” توفر له الدعم، في لهجة اعتبرها محللون “الأخطر منذ بدء الحرب”.
وفي موازاة التصعيد العسكري، أعلن البرهان استعداده للتفاوض “بما يصلح السودان وينهي الحرب ويعيد كرامته ووحدته”، لكنه شدد على رفض أي “سلام مفروض من الخارج”، في إشارة إلى مبادرة اللجنة الرباعية التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر.
الإمارات.. المتهم الخفي في تغذية الصراع
ورغم أن البرهان لم يسمِّ أطرافًا بعينها، فإن أصابع الاتهام تتجه مجددًا نحو الإمارات، التي تواجه اتهاماتٍ متزايدة بتمويل وتسليح قوات الدعم السريع.
تقارير غربية – بينها تقارير نشرتها وول ستريت جورنال وبلومبيرغ – كشفت عن نقل طائرات شحن إماراتية أسلحة وذخائر إلى قوات حميدتي عبر مطاراتٍ في ليبيا وتشاد، تحت غطاء “مساعدات إنسانية”.
ويرى خبراء أن الذهب السوداني المهرب إلى دبي يمثل “الوقود المالي” للحرب، إذ يدرّ مليارات الدولارات تُستخدم في شراء المسيّرات والذخائر، بينما تواصل شركات إماراتية السيطرة على تجارة الذهب السوداني غير المشروعة.
المحلل السياسي السوداني عبد المنعم عبد الله يرى أن “الإمارات تسعى لبسط نفوذها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وتعتبر دعم حميدتي بوابتها لتحقيق توازن إقليمي أمام مصر والسعودية”، مضيفًا أن استمرار تدفق الدعم الخارجي “يُفشل أي محاولة للسلام”.
الفاشر.. المدينة المحاصرة ورمز المأساة
في الجانب الإنساني، يعيش نحو 200 ألف مدني في مدينة الفاشر – عاصمة شمال دارفور – تحت حصارٍ خانق تفرضه قوات الدعم السريع منذ مايو 2024.
منظمة “كوبي للتعاون الدولي” الإيطالية وصفت الوضع هناك بأنه “كارثة إنسانية مكتملة الأركان”، مؤكدة مقتل عشرات المدنيين بينهم 20 في قصفٍ بطائرات مسيّرة استهدفت مركزًا صحيًا قبل أيام.
وقالت كيارا زاكوني، رئيسة بعثة المنظمة، في حديثٍ لموقع “إنتيريس” الإيطالي، إن أكثر من 14 مليون سوداني نزحوا منذ اندلاع الحرب، بينهم 10 ملايين داخل البلاد و4 ملايين عبر الحدود إلى دول الجوار مثل تشاد ومصر وجنوب السودان، بينما يواجه 24 مليونًا خطر الجوع الحاد وانعدام الأمن الغذائي.
وأضافت أن “النساء والأطفال هم الضحايا الأكبر”، في ظل انهيار البنية الصحية وانعدام المياه النظيفة وغياب المساعدات الإنسانية عن المناطق المحاصرة.

