في ظلال أزمة بيئية قانونية وصحية، دعا محتجون بمدينة قابس الواقعة في جنوب تونس لإضرابًا عامًا يوم 21 أكتوبر 2025، جاءت هذه الدعوة عقب سلسلة احتجاجات متصاعدة ومستمرة وسط ضغط شعبي واسع النطاق ضد الأضرار البيئية التي تُنتجها المنشآت الصناعية في المنطقة، خاصة مجمع الوحدات الكيميائية الذي يلوث الأجواء ويسبب أمراضًا مزمنة للسكان.

 

دوافع الإضراب والمطالب

 

دعا الاتحاد المحلي للشغل، إلى جانب منظمات مجتمع مدني متضامنة مع سكان قابس إلى الإضراب العام، معتبرين أن الأوضاع البيئية والصحية الخطيرة التي يعيشها الأهالي غير مقبولة وتستدعي تعليق كل الأنشطة الاقتصادية والتعليمية لتثبيت موقف جماهيري قوي. كانت الدعوة للإضراب بمثابة صرخة احتجاجية على الإهمال الحكومي المزمن وافتقار استراتيجية حقيقية لحماية صحة المواطنين وبيئتهم.


سكان قابس يعانون من انتشار كبير للأمراض التنفسية والجلدية بسبب التلوث الناتج عن انبعاثات المجمع الكيميائي، والتي تؤثر بشكل خاص على الأطفال وكبار السن، مما رفع سقف المطالب إلى إغلاق المصنع فورًا وتفكيك وحداته، وفتح تحقيقات شاملة في مدى تلوث البيئة والصحة العامة.

 

مسار الاحتجاجات والتصعيد الأمني

 

بدأت الاحتجاجات قبل الإضراب بأيام وتحديدا منز أول سبتمبر الماضي، وكانت المظاهرات سلمية في بداية الأمر، لكن سرعان ما اشتدت حدة المواجهات مع قوات الأمن التي استخدمت الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين، رافقة حملة اعتقالات واسعة طالت عشرات النشطاء والشباب، مما أثار غضبًا شعبيًا مكبوتًا وجعل من الإضراب شيئًا أكثر من مجرد رد فعل بيئي بحت.


الغضب الشعبي من التلوث تحول إلى غضب أعمق من قمع الحريات والتضييق على التعبير عن الرأي في عهد نظام الرئيس قيس سعيد، الذي تواجهه أصوات كثيرة بانتقادات حادة على خلفية سياساته القمعية، ما يشير إلى أن الاحتجاجات في قابس قد تكون مفتاح شرارة أكبر تواجهه السلطة في المستقبل القريب.


هل ستكون قابس شرارة انتفاضة؟


تدهور الوضع البيئي والصحي في قابس يمثل قضية إنسانية لا تحتمل التأجيل، وقد شكلت الاحتجاجات وضغطها الشرطة في اختبار لمدى قدرة النظام على إدارة الازمات الاجتماعية والبيئية دون تصعيد. في ظل قمع الحقوق الأساسية وقلة الوسائل المتاحة للمواطنين للتعبير السلمي عن مطالبهم، يزيد احتمال تحول هذه التحركات إلى انتفاضة أوسع تشمل مطالب سياسية واجتماعية تتجاوز الموضوع البيئي وحده.


كما أن دعم الاتحاد العام التونسي للشغل ومجموعات المجتمع المدني يزيد من قوة الحراك ويوسع قاعدة التحالفات التي تواجه النظام، ما قد يجعل قابس نموذجًا أو شرارة تفضح هشاشة الحكم وتطالب بتغيير جذري في السياسات.


تقييم الوضع السياسي والإنساني


من الناحية السياسية، فإن نظام قيس سعيد يواجه تحديات كبيرة في تونس عامة، وفي قابس خاصة، حيث تتداخل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية مع الأزمة البيئية، ما يجعل مواجهة الاحتجاجات أمراً بالغ التعقيد. والرد الأمني وحده غير كافٍ لتهدئة الغضب الشعبي، ويتطلب علاجًا حقيقيًا يبدأ بمعالجة التلوث والتزام الحكومة بحماية صحة المواطنين وضمان حقهم في بيئة نظيفة.


إن استمرار تحجيم الحريات وقمع الحركات الاحتجاجية يفاقم الأزمة ويزيد من مخاطر انفجار سياسي قد لا يظل محصورًا في منطقة قابس فقط. لذا فإن ما يحصل اليوم في قابس يمكن اعتباره مفصلًا مهمًا في تاريخ تونس الحديث، قد يحدد مسار العلاقة بين السلطات والمجتمع المدني لفترة قادمة.


الخلاصة ان لإضراب العام في قابس يوم 21 أكتوبر 2025 سيكون نتيجة تراكمات بيئية وصحية وسياسية انعكست في غضب شعبي عميق ومقاومة ضد التلوث الحكومي والقمع السياسي. الدعم الذي تلقاه المحتجون من نقابات ومنظمات المجتمع المدني يرفع من أهمية هذا الحدث ليس كقضية بيئية فقط، بل كإشارة تحذيرية للنظام بأن استمرار تجاهل المطالب المشروعة قد يشعل شرارة انتفاضة أوسع في تونس، لا تقتصر على المدينة وحدها، وإنما تحمل في طياتها مطالب سياسية واجتماعية تنذر بتغيير جذري قادم.


يحتاج الوضع في قابس إلى معالجة متكاملة تجمع بين الحلول البيئية والإنسانية والسياسية، وإلى فتح حوار حقيقي بين الدولة والمجتمع المدني يخرج بالتزامات واضحة لإنقاذ حياة الناس وحقوقهم، قبل أن تتحول الأزمة إلى مواجهة لا تحمد عقباها.