خرج أسرى غزة الذين أفرج عنهم مؤخرًا من سجون الاحتلال الإسرائيلي بأجساد نحيلة ووجوه شاحبة تحكي ما تعجز الكلمات عن وصفه. بدا واضحًا أن سنوات الاعتقال تركت آثارها العميقة، ليس فقط على أجسادهم الواهنة، بل على أرواحهم التي أنهكتها قسوة الزنازين وظروف الاحتجاز اللا إنسانية، في مشهد إنساني مؤلم يختصر فصولاً طويلة من القهر والمعاناة.
فعلى النقيض من مشاهد الأسرى الإسرائيليين الذين ظهروا بصحة جيدة عقب إطلاق سراحهم، بدت صور الأسرى الفلسطينيين من غزة صادمة للرأي العام. إذ خرج كثير منهم محمولين على أكتاف رفاقهم أو على كراسي متحركة، فيما بدت أطراف بعضهم مبتورة، ووجوه آخرين غائرة العيون، جافة الشفاه، كأنهم خرجوا من رحلة موت طويلة لا من سجن مؤقت.
ولم يكد هؤلاء يلتقطون أنفاس الحرية حتى انهمرت دموع ذويهم الذين وقفوا مذهولين أمام ملامح تغيّرت إلى حد يصعب معه التعرّف على أصحابها. كثير من الأهالي تحدثوا عن صدمة اللحظة الأولى، حين لم يتمكنوا من تمييز أبنائهم الذين غيّرهم التعذيب وسوء التغذية والإهمال الطبي المتعمد الذي تمارسه إدارة السجون بحقهم.
إهمال طبي وتعذيب صامت
تؤكد منظمات حقوق الإنسان أن هذه الحالات ليست فردية، بل تعبّر عن سياسة ممنهجة اتبعها الاحتلال ضد أسرى غزة على وجه الخصوص خلال العامين الماضيين. وتشير تقارير طبية إلى أن معظم الأسرى المحررين يعانون من أمراض مزمنة وتقرحات جلدية وفقر دم حاد، نتيجة الحرمان من الرعاية الصحية، وسوء الطعام والماء، وغياب أدنى مقومات النظافة داخل الزنازين.
كما أظهرت شهادات بعض الأسرى المحررين أن كثيرين تعرضوا لتعذيب جسدي ونفسي يومي، شمل الضرب المبرح، والتجريد من الملابس في البرد، والحبس الانفرادي الطويل، ما أدى إلى انهيار حالتهم الصحية والنفسية.
شيء تهتز له الجبال
— MO (@Abu_Salah9) October 13, 2025
أسير محرر من قطاع غزة يتفاجئ باستشهاد كل أطفاله وزوجته
يا الله اربط على قلبه pic.twitter.com/axxPnJO6NE
فقدان الأحبة… جرح لا يندمل
لكن الوجع لم يقف عند حدود الجسد. فبينما استقبلت غزة أبناءها الأسرى بالأهازيج والدموع، كانت هناك دموع من نوع آخر، دموع الحزن على أحبة رحلوا.
فقد تفاجأ عدد من الأسرى بخبر استشهاد أفراد أسرهم أثناء الحرب الأخيرة التي استمرت قرابة عامين وانتهت قبل أيام قليلة، حيث فقد بعضهم الزوجة والأبناء دفعة واحدة.
أحد الأسرى المحررين، لم يتمالك نفسه حين أخبره أحد أقاربه أن زوجته وأطفاله الأربعة استشهدوا تحت القصف الإسرائيلي الذي استهدف منزلهم في شمال غزة. انخرط الرجل في بكاء مرير، محاولاً أن يستوعب حجم الفقد الذي لم يكن يتخيله خلف القضبان.
أما الأسير المحرر ناجي الجعفراوي، فقد خرج إلى الحرية بعد ساعات فقط من تلقيه خبر استشهاد شقيقه الصحفي صالح الجعفراوي الذي قضى أثناء تغطيته الميدانية للقصف على مدينة غزة. وثّقت عدسات الكاميرات لحظة معرفته بالخبر، في مشهد إنساني اختلطت فيه الدهشة بالنحيب والذهول.
يا رب الجبر والصبر
— أنس الشريف Anas Al-Sharif (@AnasAlSharif0) October 13, 2025
مشاعر مؤلمة عاشها الأسير ناجي الجعفراوي لحظة تلقيه خبر استشهاد شقيقه الصحفي صالح يوم أمس.pic.twitter.com/ygqVzIqzLs
صمت العالم وصوت المعاناة
تثير هذه المشاهد موجة استنكار واسعة في الأوساط الحقوقية والإعلامية، حيث طالبت منظمات دولية بفتح تحقيق عاجل في ظروف اعتقال الأسرى الفلسطينيين، وخصوصًا أسرى غزة الذين عانوا من أقسى أشكال المعاملة خلال فترة الحرب.
ويرى مراقبون أن الفارق الكبير بين حالة الأسرى الإسرائيليين والفلسطينيين يفضح ازدواجية المعايير الدولية، ويكشف حجم الانتهاكات التي تُرتكب بعيدًا عن أعين العالم.
ويؤكد مختصون في القانون الدولي أن ما يتعرض له الأسرى الفلسطينيون من إهمال طبي وتعذيب نفسي وجسدي يرقى إلى جرائم حرب، تستوجب محاسبة الاحتلال وفقًا لاتفاقيات جنيف التي تضمن الحد الأدنى من حقوق الأسرى والمعتقلين.
حرية بطعم الفقد
ورغم أن لحظة الخروج من السجن كانت بالنسبة لكثيرين بمثابة ولادة جديدة، إلا أن هذه الولادة جاءت ممزوجة بمرار الفقد ووجع الذاكرة. فبينما استنشق الأسرى أول نسائم الحرية بعد سنوات من القيد، اكتشفوا أن الحرية التي حلموا بها لم تعد كما كانت، وأن خلف الأسوار التي تركوها، كانت بيوت تُهدم وأسر تُباد وأحلام تُمحى.
هكذا خرج أسرى غزة إلى دنيا جديدة لم يعرفوها من قبل، بأجساد أنهكها العذاب وقلوب مثقلة بالحزن، لكنهم خرجوا أيضاً بإرادة أقوى على الحياة، وبإيمان راسخ بأن وجعهم لن يضيع هدراً، وأن حريتهم الممزوجة بالدموع هي شاهد آخر على صمود شعبٍ لا يُكسر.