تعيش مصر في السنوات الأخيرة موجة غير مسبوقة من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، انعكست بشكل مباشر على النسيج الأسري، وأفرزت ظاهرة مقلقة تتمثل في تصاعد معدلات الجرائم الأسرية، التي باتت تهز الرأي العام وتكشف عن عمق التدهور النفسي والاجتماعي الذي يعانيه المواطن المصري.
فمع ارتفاع الأسعار وتراجع الدخول وتدني مستوى المعيشة في ظل حكم عبد الفتاح السيسي، لم تعد الأسرة المصرية قادرة على الاحتمال، وتحولت البيوت من ملاذ آمن إلى ساحات للعنف والدم.
انهيار المنظومة الاجتماعية تحت ضغط الغلاء
يؤكد خبراء علم الاجتماع أن الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد منذ سنوات لعبت دورًا أساسيًا في تفكيك منظومة الأسرة، حيث أدت سياسات النظام إلى تآكل الطبقة الوسطى واتساع رقعة الفقر، مما خلق بيئة خصبة للعنف والإحباط واليأس.
في زمن الانقلاب الدموي، كما يصفه المنتقدون، أصبح عجز الآباء عن تلبية احتياجات أبنائهم وقودًا لغضب مكتوم يتفجر أحيانًا في جرائم مروعة؛ أب يقتل أبناءه، أو زوجة تنهي حياة زوجها وأطفالها، في مشاهد صادمة لم تكن مألوفة في المجتمع المصري المعروف بتماسكه العائلي.
مصر في مراتب متقدمة بالجرائم الأسرية
وفقًا لتصنيف موقع “نامبيو” العالمي، تحتل مصر المركز الثالث عربيًا والـ65 عالميًا في معدلات جرائم القتل، وهي مرتبة تعكس حجم الانفلات الاجتماعي وغياب الاستقرار النفسي.
وخلال الأشهر الماضية، تصدرت وسائل الإعلام أخبار جرائم أسرية مروعة، منها واقعة أب قتل زوجته وأطفاله الأربعة في القليوبية، وأخرى في الجيزة راح ضحيتها أم وأطفالها الثلاثة على يد الأب. هذه الحوادث ليست مجرد قصص مأساوية فردية، بل مؤشر على انهيار منظومة القيم وغياب الإحساس بالأمان داخل الأسرة المصرية.
ضغوط اقتصادية ونفسية تفجر الغضب
يرى الدكتور علي النبوي، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، أن تصاعد معدلات العنف الأسري والعام يعكس “تدهورًا خطيرًا في القيم الأخلاقية والاجتماعية التي كانت تحكم السلوك المصري”.
ويشير إلى أن الأوضاع المعيشية المتدهورة وتفشي الإحباط والبطالة وضعف الأمل في المستقبل جعلت الشباب أكثر عرضة للعدوان والعنف، لاسيما في ظل غياب القدوة والقيادة الأخلاقية.
وأضاف النبوي أن انتشار المحتوى العنيف عبر السوشيال ميديا ساهم في تطبيع السلوك العدواني وجعله مقبولًا اجتماعيًا، خاصة بين المراهقين، مؤكدًا أن “لغة الحوار تحولت من الاحترام إلى الشتائم، ومن الخلاف إلى الضرب، حتى داخل البيت نفسه”.
انهيار سلطة الأب وتفكك الأسرة
من أبرز ملامح التحول التي رصدها الخبراء تراجع مكانة الأب داخل الأسرة المصرية. لم يعد الأب مصدر السلطة أو القدوة كما كان في الماضي، بل فقد احترام أبنائه الذين يرونه متأخرًا عن عصر التكنولوجيا والإنترنت.
هذا التغيير في ميزان الأدوار داخل البيت أدى إلى تزايد التمرد والعنف من الأبناء، خاصة مع انشغال الآباء بالبحث عن لقمة العيش وسط الغلاء الفاحش.
النبوي أكد أن “الأب الذي فقد هيبته ومصدر رزقه لم يعد قادرًا على احتواء أسرته، بل أصبح جزءًا من أزمة أعمق تهدد بقاء الأسرة المصرية ذاتها”.
إدمان المخدرات وانعدام القدوة
يتقاطع العنف الأسري أيضًا مع تفشي إدمان المخدرات بين الشباب، والذي يراه النبوي عرضًا لأزمة أعمق تتعلق بالإحباط وانعدام الأمل. فالشباب الذي لا يجد فرصة عمل ولا نموذجًا ناجحًا يحتذي به، يسهل انزلاقه إلى الانحراف والعنف.
ويحذر النبوي من أن “الإعلام الرسمي يروّج لنماذج فاسدة أو تافهة بدل تقديم شخصيات ناجحة حقيقية”، ما يخلق حالة من الفوضى القيمية والانفصال بين الأجيال.
تآكل القيم في المدارس والجامعات
الأزمة لا تقتصر على المنازل، بل امتدت إلى المدارس والجامعات، حيث تتزايد مشاهد العنف اللفظي والجسدي بين الطلاب. ويؤكد النبوي أن فترة المراهقة أصبحت مرحلة خطرة بسبب غياب التوجيه النفسي وضعف الانتماء، داعيًا إلى تدخل عاجل عبر برامج توعوية ومحتوى إعلامي هادف يعيد بناء الشخصية المصرية على أسس أخلاقية وإنسانية.
مؤشر خطر على انهيار المجتمع
من جانبه، يرى الدكتور هشام رامي، أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس، أن الجرائم الأسرية “مؤشر خطير على تآكل البنية النفسية للأسرة المصرية وغياب التواصل العاطفي داخلها”.
وأوضح أن معظم الحالات التي يتعامل معها الأطباء النفسيون ناتجة عن تراكم ضغوط مثل الاكتئاب والعزلة وانعدام الشعور بالانتماء، وهي كلها أعراض لمجتمع يختنق اقتصاديًا ونفسيًا في آنٍ واحد.
وأكد أن العنف لم يعد مجرد رد فعل لحظي، بل وسيلة “للتعبير عن ألم داخلي عميق”، نتيجة قهر وضغوط مستمرة لم يجد الناس طريقًا لتفريغها سوى في أقرب دائرة إليهم: الأسرة.
نحو الانهيار الاجتماعي الشامل
تختتم هذه الظواهر صورة قاتمة لمجتمع يترنح تحت وطأة القهر الاقتصادي والسياسي في آنٍ واحد، حيث تتحول البيوت إلى مراجل غضب مكتوم تنفجر في جرائم مأساوية.
ويحذر الخبراء من أن تجاهل هذه الأزمة سيقود إلى انهيار اجتماعي شامل، لا يمكن إصلاحه بالقبضة الأمنية وحدها، بل يحتاج إلى إصلاح جذري في السياسات الاقتصادية، وإعادة بناء منظومة القيم والتعليم والإعلام.
فما يحدث اليوم ليس مجرد تفكك أسري، بل نتيجة مباشرة لسياسات أفقرت المواطن، وقهرت الشباب، وأفرغت الحياة من الأمل — لتتحول مصر، في ظل حكم السيسي، إلى مجتمع مأزوم يعيش على حافة الانفجار.