في بلد يئن فيه المواطن العادي تحت وطأة غلاء يلتهم حتى رغيف الخبز، وتتآكل فيه الطبقة الوسطى بسرعة مرعبة، يخرج علينا "سوق العقارات" برقم سريالي لا يصدقه عقل: 886 مليون جنيه ثمن فيلا واحدة في كمباوند "قطامية هايتس".

 

هذا ليس مجرد رقم فلكي في صفحة إعلانات، بل هو إعلان وفاة رسمي لما تبقى من عدالة اجتماعية في مصر، وشاهد حي على تشوه اقتصادي جعل العقار مخزناً لقيمة منهوبة، وحوّل السكن من حق إنساني إلى "كنز" يحتكره قلة من المحظوظين الذين يراكمون الثروات في وقت تطالب فيه الحكومة الفقراء بـ"الصبر والتقشف".

 

اقتصاد "الندرة" المفتعل: حين يصبح السكن حكراً على اللصوص

 

تبرر الحكومة ومسوقو العقارات هذه الأرقام المجنونة بنظريات "الندرة" و"الموقع المتميز"، حيث الإطلالة على بحيرة صناعية أو ملعب جولف تساوي ملايين الدولارات.

 

لكن الحقيقة المرة التي يخفيها هؤلاء هي أن هذه "الندرة" ليست طبيعية، بل هي نتاج سياسات حكومية ممنهجة حولت الأرض إلى سلعة مضاربة، وجعلت من "القاهرة الجديدة" والعاصمة الإدارية "جيتوهات" معزولة للأثرياء، بينما تُركت باقي القاهرة القديمة والريف لتغرق في العشوائية والخدمات المتردية.

 

عندما يصل سعر فيلا "نصف تشطيب" إلى 8 ملايين دولار ، في بلد الحد الأدنى للأجور فيه لا يكفي لشراء متر واحد من السيراميك، فهذا يعني أننا أمام اقتصاد "غسيل أموال" مقنن، حيث لا يمكن لأي نشاط إنتاجي شريف أن يولد هذه الأرباح الخيالية التي تضاهي ميزانيات شركات بأكملها.

 

"جيتو" مبارك وأبنائه: استمرار دولة الفساد العميقة

 

ليس غريباً أن تكون "قطامية هايتس"، التي يسكنها أبناء الرئيس المخلوع مبارك ووزراء عهده ورجال أعماله، هي مسرح هذا الجنون السعري. فهذا الكمباوند، الذي أُنشئ في التسعينات، يمثل الرمز الحي لاستمرار "دولة الفساد العميقة" التي لم تسقط، بل تضخمت وتوحشت.

 

إن ارتفاع سعر فيلا عادية التصميم لتقارب المليار جنيه ليس دليلاً على عبقرية معمارية، بل هو "تسعير اجتماعي" لنادي النخبة الذي يحكم ويسيطر.

 

يقول الخبير العقاري محمد خطاب إن "هوية القاطنين" ترفع السعر ؛ وبعبارة أدق، أنت تدفع المليار لتشتري "الحصانة" والجيرة مع مراكز القوة والنفوذ، في دولة أصبحت فيها العلاقات أهم من القانون، والانتماء لهذا "النادي المغلق" هو بوليصة التأمين الوحيدة ضد تقلبات السياسة والاقتصاد.

 

فقاعة عقارية أم ملاذ للنهب؟

 

في الوقت الذي بلغ فيه متوسط سعر المتر في القاهرة الجديدة 105 آلاف جنيه ، وهو رقم يفوق قدرة 99% من المصريين، تستمر الحكومة في الترويج لهذه الأسعار كدليل على "قوة السوق". لكن الحقيقة التي يدركها الجميع هي أن العقار في مصر تحول من وسيلة سكن إلى "خزنة" لتهريب الأموال من التضخم الذي صنعته الحكومة نفسها بطباعة العملة والاستدانة.

 

إن وجود فيلات بمليار جنيه وإيجارات تصل لـ 8000 دولار شهرياً في دولة تعاني من شح العملة الصعبة، هو دليل قاطع على وجود "اقتصادين" في مصر: اقتصاد الفقراء الذي ينهار فيه الجنيه، واقتصاد "الكمباوندات" الذي يتعامل بالدولار والمليارات، دون أن يدفع هؤلاء ضرائب حقيقية تتناسب مع هذه الثروات الفاحشة، بينما يُلاحق بائع الخضار البسيط في رزقه اليومي.

 

الخلاصة أن فيلا المليار ليست خبراً اقتصادياً عابراً، بل هي لائحة اتهام لنظام اقتصادي انحاز بشكل فج للأغنياء، وترك السواد الأعظم من الشعب يلهث خلف سراب "حياة كريمة" لا يراها إلا في إعلانات التلفزيون، بينما الواقع هو أن المتر الذي يسكن فيه المواطن يضيق كل يوم، والمتر الذي يملكه "الباشا" يزداد توحشاً وسعراً.