في خطوة وُصفت بالتاريخية، أعلنت فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وموناكو وأندورا اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، لتنضم إلى موجة متنامية من الاعترافات الدولية بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة.
يأتي ذلك بعد يوم واحد فقط من إعلان مشابه صدر عن بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال، في تحوّل نوعي يعكس تزايد القناعة الدولية بضرورة وضع حد للاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ عام 1967.
 

تحوّل دبلوماسي
قرار هذه الدول الأوروبية الصغيرة والمتوسطة يعكس بداية تحوّل في الموقف الغربي من القضية الفلسطينية.
ففرنسا، وهي عضو دائم في مجلس الأمن، كانت لعقود طويلة تتبنى سياسة أكثر حذراً تجاه الاعتراف الرسمي، لكنها اليوم كسرت هذا التردد، ما قد يفتح الباب أمام دول أوروبية أخرى للحاق بالركب.

وبحسب مصادر دبلوماسية، فإن هذه الموجة جاءت بعد نقاشات مكثفة داخل الاتحاد الأوروبي حول فشل مسار التسوية، وتصاعد الغضب الشعبي والحقوقي من الانتهاكات الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
 

خلفية الاعترافات
الاعترافات الجديدة لا تأتي بمعزل عن السياق الدولي.
فمنذ أشهر، يواجه الاحتلال الإسرائيلي عزلة متزايدة نتيجة الحرب المدمرة على غزة التي خلّفت عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين، إضافة إلى تواصل سياسات الاستيطان والتهجير القسري في الضفة.
هذه الانتهاكات دفعت منظمات حقوقية بارزة إلى اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وربما جرائم ضد الإنسانية.

وفي ظل انسداد الأفق السياسي، باتت كثير من الدول ترى أن الاعتراف بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 مع القدس الشرقية عاصمة لها، هو السبيل الوحيد لدفع مسار السلام.
 

رد الفعل الفلسطيني
رحبت السلطة الفلسطينية وحركة "حماس" بالاعترافات الجديدة، واعتبرتها "انتصاراً لعدالة القضية الفلسطينية".
وأكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن هذه الخطوة "تعزز مكانة فلسطين في المجتمع الدولي وتفتح آفاقاً جديدة لمحاسبة الاحتلال".

من جانبها، وصفت وزارة الخارجية الفلسطينية القرار بأنه "رسالة قوية إلى إسرائيل بأن العالم لم يعد يقبل استمرار الاحتلال وإنكار الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني".
 

الغضب الإسرائيلي
في المقابل، أثارت الخطوة الأوروبية غضب الحكومة الإسرائيلية. فقد استدعى وزير الخارجية الإسرائيلي سفراء الدول المعترفة، متهماً إياها بـ"تشجيع الإرهاب وتقويض فرص السلام".
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن الاعترافات "لن تغيّر شيئاً على الأرض"، معتبراً أن "الدولة الفلسطينية لن تقوم إلا عبر المفاوضات المباشرة".

لكن مراقبين أكدوا أن الغضب الإسرائيلي يعكس خشية حقيقية من تمدد هذه الموجة لتشمل دولاً أكبر مثل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وهو ما سيضع إسرائيل في عزلة دبلوماسية غير مسبوقة.
 

موقف المجتمع الدولي
الأمم المتحدة رحبت بشكل غير مباشر بهذه الخطوة، إذ أكد متحدثها الرسمي أن "الاعتراف بفلسطين هو قرار سيادي لكل دولة"، مشدداً على أن الحل النهائي يجب أن يقوم على مبدأ الدولتين.

أما الولايات المتحدة، الحليف الأكبر لإسرائيل، فقد عبّرت عن "خيبة أمل" من الاعترافات الأوروبية، معتبرة أنها "خطوات أحادية الجانب"، لكنها لم تتخذ أي إجراء عملي ضد الدول المعترفة.
ويُنظر إلى هذا الموقف باعتباره إشارة إلى تراجع القدرة الأمريكية على ضبط مواقف حلفائها في الغرب.
 

تداعيات متوقعة
يرى خبراء أن الاعترافات المتتالية بدولة فلسطين ستعزز مساعي الفلسطينيين للحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، بعد أن ظلوا يتمتعون منذ عام 2012 بصفة "دولة مراقب غير عضو".
كما ستمنح السلطة الفلسطينية أرضية قانونية أقوى في اللجوء إلى المحاكم الدولية، بما فيها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، لملاحقة إسرائيل على جرائمها.

في المقابل، قد تدفع هذه التطورات إسرائيل إلى مزيد من التصعيد على الأرض، سواء عبر توسيع الاستيطان أو تشديد الحصار على غزة والضفة، في محاولة لإظهار أن الاعترافات الدولية لن تغيّر موازين القوى.

وفي النهاية فإن الاعتراف الرسمي بفلسطين من قبل فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وموناكو وأندورا، بعد يوم واحد من اعتراف بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال، يمثل منعطفاً تاريخياً في مسار القضية الفلسطينية.
فهو يعكس تنامي الوعي الدولي بعدالة المطالب الفلسطينية، ويؤشر إلى بداية مرحلة جديدة من العزلة السياسية لإسرائيل، حتى وإن ظلت الولايات المتحدة منحازة لها.

وبينما يحتفي الفلسطينيون بهذا المكسب السياسي، يبقى التحدي الأكبر في تحويل هذه الاعترافات إلى خطوات عملية توقف العدوان وتضع الاحتلال أمام محاسبة حقيقية، وهو ما يتطلب إرادة دولية تتجاوز البيانات الرمزية إلى أفعال ملموسة.