تتصاعد أزمة سوق الدواء في مصر وسط ديون ضخمة تراكمت على هيئة الشراء الموحد لصالح شركات الأدوية والمستلزمات الطبية، تجاوزت 40 مليار جنيه، وفق مصادر من وزارة الصحة.
هذه الأزمة التي هزّت القطاع الصحي وأربكت عمليات التوريد، دفعت الحكومة مؤخرًا لتغيير قيادة الهيئة، وتعيين هشام شتيت رئيسًا لها في يناير الماضي، في محاولة لاحتواء التداعيات، بعد تقليص دور الهيئة الشهر الجاري وتحويلها إلى جهة رقابية فقط.

السؤال الآن: هل ينجح شتيت في إصلاح ما أفسده سلفه بهاء الدين، الذي وُجهت له اتهامات بإغراق الهيئة في الديون واحتكارها للسوق منذ 2019؟
 

جدولة الديون ووعود بالسداد
خلال اجتماع مع ممثلي أكثر من 70 شركة محلية وعالمية، حاول شتيت طمأنة الموردين، مؤكدًا أن الحكومة وضعت خطة لتسوية المستحقات المتأخرة.
ووفقًا للخطة، سيجري التمييز بين نوعين من الإمدادات:

  • الأدوية المجانية: التي تُصرف عبر العلاج على نفقة الدولة. وقد بدأت شركات بالفعل في صرف 50% من مستحقاتها، على أن يُسدّد الباقي عبر اعتماد مستندي غير قابل للإلغاء يمتد لثلاث سنوات.
  • الإمدادات الاقتصادية: التي تعتمد عليها هيئات مثل التأمين الصحي. هذه المستحقات ستُسدّد بالكامل خلال العام المالي الجاري، بناءً على جدول زمني مفصل سيُعلن في أكتوبر المقبل، يمتد حتى يونيو 2026.

شتيت شدد على أن العام المالي الجديد لن يشهد أي تأخر في صرف مستحقات الموردين، مع إطلاق نظام إلكتروني موحد يتيح متابعة الطلبات وعمليات الدفع والتوريد بين جميع الأطراف، لتعزيز الشفافية وسرعة الإجراءات.
 

خلفية الأزمة: ديون وتخبط مالي
مصدر في وزارة الصحة كشف أن مديونية الهيئة تجاوزت 40 مليار جنيه، وهو ما دفع وزارة المالية للتدخل وسداد جزء منها، في ظل محاولات لإيجاد جهة تتحمل العبء.
بعض هذه المحاولات شملت اللجوء إلى قروض وائتمانات بنكية، بل وطرح مقترح ببيع قطعة أرض تابعة للشركة المصرية لتجارة الأدوية (التي ضُمت للهيئة عام 2020) لتغطية المستحقات.

تراكم الديون أدى إلى ارتباك واسع في السوق، حيث تأخرت الشركات عن توريد الأدوية والمستلزمات بسبب عدم الحصول على مستحقاتها، وهو ما انعكس على المخزون الاستراتيجي، في وقت تواجه فيه البلاد تحديات صحية متزايدة.
 

إرث بهاء الدين: احتكار واتهامات بالفساد
الهيئة منذ تأسيسها عام 2019 هدفت إلى تنظيم المشتريات الحكومية وضبط أسعار الأدوية والمستلزمات. لكن بمرور الوقت، تحولت إلى كيان احتكاري، بحسب شكاوى شركات الأدوية والمستلزمات.
سلف شتيت، الدكتور بهاء الدين، اتُهم بأنه أدار الهيئة بطريقة مركزية مغلقة، سمحت بتفاقم الديون وسط شبهات فساد، وهو ما دفع القيادة السياسية هذا الشهر إلى تقليص دور الهيئة وتحويلها إلى جهة رقابية فقط.

شركات طبية أكدت في تصريحات صحفية أن تعامل الهيئة اتسم بالغموض والبيروقراطية، وأنها اعتمدت على تأجيل السداد، ما راكم الديون حتى وصلت إلى مستوى غير مسبوق.
 

سيناريوهات الحل: بين الإصلاح والتفكيك
الخطط الحالية تركز على إعادة الثقة بين الهيئة والموردين. شتيت يسعى إلى تقديم نفسه كشريك موثوق للشركات عبر وعود بالسداد المنتظم.
لكن خبراء الصحة والاقتصاد يرون أن الأزمة أعمق من مجرد تسويات مالية:

  • اقتصاديون يؤكدون أن العجز المالي الهيكلي وتغيرات سعر الصرف سيجعلان من الصعب التزام الحكومة بالجدول الزمني للسداد.
  • قانونيون يرون أن غياب الشفافية في إدارة التعاقدات السابقة يحتاج إلى مراجعة دقيقة وربما تحقيقات موسعة لكشف أي شبهات فساد.
  • شركات الأدوية تطالب بآلية رقابية حقيقية تضمن عدم تكرار ما حدث، بما يشمل إشراك البنك المركزي والرقابة المالية في متابعة التدفقات النقدية.
     

خبراء: إصلاح يتطلب إرادة سياسية
الدكتور مدحت نافع، الخبير الاقتصادي، أكد أن المشكلة ليست فقط في حجم الديون، بل في فلسفة إدارة الهيئة التي اعتمدت على الاحتكار والتوسع بلا دراسة. وقال: "جدولة الديون قد تحل جزءًا من الأزمة، لكن المطلوب إعادة النظر في بنية الهيئة ودورها"، مشيرًا إلى ضرورة إشراك القطاع الخاص بشفافية أكبر.

المستشار هشام رجب، خبير التشريعات الاقتصادية، أوضح أن الهيئة بحاجة إلى إطار قانوني جديد يحدد اختصاصاتها بدقة: "القوانين الحالية لا تمنح مرونة كافية للرقابة، ولا تضع ضوابط واضحة لآليات التعاقد، وهو ما خلق ثغرات سمحت بتراكم الديون"، مضيفًا أن الإصلاح التشريعي ضروري لتفادي تكرار الكارثة.

من جانبه، أشار الدكتور محمد فؤاد، أستاذ إدارة الأعمال وخبير السياسات الصحية، إلى أن الموردين فقدوا الثقة في الهيئة خلال السنوات الأخيرة: "لن يستعيد شتيت هذه الثقة إلا إذا التزم بجداول السداد حرفيًا، وقدم ضمانات بنكية شفافة، إلى جانب تفعيل النظام الإلكتروني المعلن عنه".
 

مستقبل الهيئة: اختبار شتيت
التحدي الأكبر أمام هشام شتيت هو ما إذا كان قادرًا على إثبات أن الهيئة يمكن أن تستعيد ثقة الموردين وتصبح أداة تنظيمية فعّالة بدلًا من أن تكون عبئًا على الدولة. الإصلاح لن يقتصر على تسوية الديون فقط، بل يتطلب إعادة هيكلة شاملة في السياسات المالية والإدارية، وضمان أن تتحول الهيئة إلى منصة شفافة تُنظم سوق الدواء دون احتكار أو فساد.

وفي النهاية فإن أزمة هيئة الشراء الموحد تكشف هشاشة إدارة ملف الدواء في مصر، حيث أدت سياسات خاطئة وقرارات احتكارية إلى ديون بمليارات الجنيهات وأزمات تهدد الأمن الصحي للمواطنين. اليوم، يقف هشام شتيت أمام مهمة شاقة: هل ينجح في إصلاح ما أفسده بهاء الدين، أم أن إرث الهيئة الثقيل سيظل يلاحقه ويضع سوق الدواء في دائرة الأزمات المستمرة؟