مع اقتراب العام الدراسي الجديد، تفاجأ أصحاب محال الأدوات المدرسية في محافظات القاهرة والجيزة والإسكندرية والمحلة الكبرى بحملات مكثفة من وزارة الداخلية صادرت خلالها شحنات بضائع متنوعة، جرى لاحقًا عرضها في معارض "كلنا واحد" بأسعار مخفضة تصل إلى 40%.
وبينما أعلنت الوزارة أن الهدف هو "تخفيف الأعباء عن المواطنين"، يرى التجار أن ما حدث هو اعتداء صارخ على حقوقهم المشروعة، وأعاد إلى الأذهان ما كان يُعرف في المحلة بـ"سوق الحرامية"، حيث تُباع البضائع المصادرة بأسعار زهيدة بعد أن تُنتزع بالقوة.
شهادات من مواطنين بين الاستفادة والدهشة
في الإسكندرية، عبّرت أم محمد، ربة منزل، عن حيرتها قائلة: "الأسعار هنا أقل من نصف اللي في المحلات، بس بنسمع إن البضاعة دي اتاخدت من التجار بالقوة. يعني أنا مبسوطة عشان أوفر، لكن في نفس الوقت حاسة إني باشتري من تعب ناس تانية اتظلموا."
أما في المحلة الكبرى، حيث اشتهر قديمًا "سوق الحرامية"، فقد أكد خالد عبدالعزيز، موظف حكومي: "اللي بيحصل ده نسخة جديدة من السوق القديم. الوزارة بتقول إنها بتخدم المواطن، لكن في الحقيقة بتكسر التجار الصغيرين وبتاخد منهم بضاعة دفعوا فيها دم قلبهم."
في المقابل، رأى بعض المواطنين أن الأولوية لجيوبهم فقط، مثل منى حامد، طالبة من الجيزة: "مش فارق عندي مصدر البضاعة، المهم أقدر أشتري شنطة وكراريس بأسعار مناسبة، بدل الأسعار المولعة بره."
آراء خبراء: خطوة تضرب الاقتصاد الموازي وتقتل المنافسة
يرى خبراء اقتصاديون أن الممارسات الأخيرة تُمثل خطرًا على المناخ الاستثماري. يقول الدكتور أحمد عبدالسلام، أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس: "الدولة بهذا الشكل تتحول من منظم للسوق إلى لاعب غير عادل. تصادر من التجار ثم تعرض في معارضها بأسعار مخفضة. هذا يقضي على المنافسة ويجعل التجار في حالة رعب دائم، ما يدفعهم للعزوف عن الاستيراد أو تقليص أنشطتهم."
ويضيف محمد مجدي، محلل اقتصادي من الإسكندرية: "المشكلة ليست فقط في انتهاك حقوق التجار، بل في الرسالة التي تُرسلها هذه الخطوات: أن السوق بلا قواعد حقيقية، وأن الدولة يمكن أن تتحول إلى منافس يطيح بالقطاع الخاص في أي لحظة."
أما الخبير القانوني طارق حسن فأكد: "ما يجري يُعيد إنتاج سوق الحرامية. عندما تُصادر البضاعة وتُباع في معارض حكومية، فهذا يُفقد الثقة في الدولة كحكم محايد، ويضعف فكرة سيادة القانون."
أبعاد اجتماعية: كسر التجار الصغار وتوسيع الفجوة
اجتماعيًا، يثير الأمر قلقًا واسعًا. يقول الناشط الحقوقي محمود فوزي من المحلة: "التجار الصغار هم العمود الفقري لأي مجتمع، ومصادرة بضائعهم بهذا الشكل تدمّر شريحة واسعة من الطبقة الوسطى. هؤلاء سيغرقون في الديون، بينما المواطن الذي يشتري البضاعة الرخيصة اليوم سيدفع ثمن انهيار الاقتصاد غدًا."
وتضيف سناء يوسف، باحثة اجتماعية من القاهرة: "حين يشعر المواطن أن الدولة يمكن أن تصادر رزقه في أي لحظة، فإنه سيلجأ إلى السوق السوداء أو إلى الهجرة. وهذا أخطر ما يمكن أن يحدث في بلد يعاني أصلًا من نزيف العقول والكوادر."
وأخيرا فبين الخطاب الرسمي عن "تخفيف الأعباء" ورواية التجار عن "السطو على ممتلكاتهم"، يبقى المواطن هو الحلقة الأضعف.
صحيح أن البعض استفاد من الأسعار المنخفضة في القاهرة والإسكندرية والمحلة، لكن على المدى الطويل تُفقد الثقة في عدالة السوق ويُهدد مستقبل آلاف التجار.
إعادة إحياء ما يُشبه "سوق الحرامية" لا تعني فقط إهانة أصحاب المحال، بل تمثل ضربة قاتلة لثقة المجتمع في مؤسسات الدولة، وتفتح الباب لفوضى اقتصادية قد لا يُحمد عقباها.