شهدت سوق الطاقة المصرية تطورًا لافتًا في الأيام الأخيرة، إذ ألغت الحكومة المصرية ممثلة في الهيئة العامة للبترول شراء أكثر من مليوني برميل من النفط كانت مخصصة لتشغيل محطات الكهرباء، بعد أن تم الاتفاق عليها في مناقصة طارئة قبل أسابيع فقط.
ورغم أن التصريحات الرسمية ربطت القرار بـ"تأمين احتياجات البلاد من الغاز الطبيعي"، إلا أن المعطيات الاقتصادية والمالية تشير إلى أن السبب الأعمق هو أزمة السيولة وتراكم الديون على الحكومة المصرية لصالح شركات الطاقة الأجنبية، ما يجعلها غير قادرة على الالتزام بكامل مشترياتها.
 

من أزمة طاقة إلى أزمة سيولة
في يونيو الماضي، وبعد توقف جزئي لإمدادات الغاز من إسرائيل بسبب توترات إقليمية، طرحت مصر مناقصة عاجلة لشراء 14 شحنة من زيت الوقود (Fuel Oil) لتجنب انقطاع الكهرباء في الصيف.
لكن مع تحسن الإمدادات وعودة تدفق الغاز، كان من المتوقع أن تلتزم الحكومة بكامل الشحنات المتفق عليها، لا أن تلغي نصفها.

تراجع مصر عن هذه المشتريات لا يمكن فصله عن واقع اقتصادي مأزوم:

  • مديونية شركات النفط الأجنبية: مصر مدينة لشركات البترول العالمية بمليارات الدولارات مقابل مستحقات متأخرة عن عمليات الإنتاج والشراكات في الحقول.
  • عجز في النقد الأجنبي: الاحتياطي من العملة الصعبة يخضع لضغوط شديدة بسبب خدمة الديون الخارجية، واستيراد السلع الأساسية، وفاتورة الطاقة نفسها.
  • التزامات متراكمة أخرى: تشمل سداد فوائد وأقساط ديون سيادية مستحقة، ما يقلص المساحة المتاحة لأي مشتريات طارئة.
     

المديونية وتأثيرها المباشر

بحسب بيانات وزارة البترول وتقارير اقتصادية، وصلت مستحقات شركات النفط الأجنبية على مصر في بعض الفترات إلى ما يقرب من 4.5 مليار دولار، وانخفضت مؤخرًا جزئيًا بعد سداد مليار دولار، لكن الجزء الأكبر لا يزال قائماً.
هذه الشركات، مثل BP وEni وشيفرون، تُعد مزودًا رئيسيًا للاستثمار والتكنولوجيا في القطاع، لكنها باتت أكثر حذرًا في التعامل مع مصر بسبب التأخر المتكرر في الدفع.

عندما تقرر الحكومة شراء كميات ضخمة من النفط، فهي تحتاج إلى:

  • دفعات مقدمة أو ضمانات مالية.
  • قدرة على السداد عند التسليم.
  • غياب السيولة الكافية يجعل من الصعب تنفيذ هذه الصفقات، خصوصًا مع الموردين الدوليين الذين يشترطون شروط دفع صارمة.
     

أثر القرار على سمعة مصر الاستثمارية
إلغاء شراء شحنات بترول بعد الاتفاق عليها يرسل رسالة سلبية للأسواق الدولية:

  • يثير الشكوك حول قدرة مصر على الالتزام بعقودها التجارية.
  • قد يجعل الموردين يطلبون شروط دفع مسبقة أكثر صرامة في المستقبل، ما يزيد الضغوط على العملة الصعبة.
  • يبطئ من وتيرة الاستثمارات الجديدة في قطاع الطاقة، وهو ما قد يفاقم الأزمة على المدى البعيد.
     

العجز عن السداد ليس وليد اللحظة
أزمة المديونية في قطاع الطاقة المصري ليست جديدة:

منذ 2011، ومع الاضطرابات السياسية، بدأت المستحقات المتأخرة تتراكم.
في 2013-2014، بلغت ذروتها قبل أن تبدأ الحكومة خطة سداد تدريجية.
لكن مع أزمة كورونا والحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة عالميًا، عادت المستحقات للارتفاع.
عام 2024، اضطرت الحكومة لجدولة ديونها لشركات النفط على سنوات، وهو ما جعل سداد المدفوعات الكبيرة في وقت قصير أمرًا شبه مستحيل.
 

القرار وأثره على المواطن

الخطوة لها انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على المواطن:

على المدى القريب: قد لا يشعر المواطن بتأثير سلبي واضح إذا كان الغاز يوفر الاحتياجات الفعلية للكهرباء، لكن أي تعطل مفاجئ في إمدادات الغاز سيعيد سيناريو الانقطاعات.
على المدى المتوسط: استمرار عجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها قد يؤدي إلى نقص في الوقود أو اضطرارها لشراء شحنات عاجلة بأسعار أعلى، ما يترجم إلى زيادات في أسعار الكهرباء والوقود محليًا.
 

المشاكل الاقتصادية الأوسع التي تؤثر على القرار

  • تراجع الجنيه المصري: انخفاض قيمته يزيد تكلفة أي واردات، بما فيها النفط، بالعملة المحلية.
  • ارتفاع خدمة الدين الخارجي: مصر مطالبة بسداد عشرات المليارات من الدولارات سنويًا بين أقساط وفوائد، ما يستهلك معظم موارد العملة الصعبة.
  • تضخم داخلي مرتفع: يجعل أي زيادات في أسعار الطاقة أكثر إيلامًا للمواطن، ما يضغط على الحكومة سياسيًا.
  • الاعتماد على مورد واحد (الغاز الإسرائيلي): يضع مصر في موقع ضعيف أمام أي توترات سياسية أو فنية تعطل الإمداد.
     

تحليل مستقبلي
قرار إلغاء شراء أكثر من مليوني برميل بترول ليس مجرد "إجراء إداري" أو "تصحيح فني للمخزون"، بل هو مؤشر على اختناق مالي أعمق، يعكس صعوبة توفير السيولة الكافية لصفقات الطاقة، حتى مع وجود حاجة تقنية لها.

إذا استمرت مصر في الاعتماد على الغاز كمصدر رئيسي للكهرباء دون تنويع حقيقي، فإن أي أزمة مفاجئة قد تدفعها لشراء وقود بديل بأسعار مرتفعة وفي ظروف مالية خانقة، ما يزيد من أعباء الديون ويكرر دائرة الأزمة.

المشهد القادم قد يتوقف على:

  • مدى قدرة الحكومة على زيادة صادرات الغاز لتوليد العملة الصعبة.
  • التوصل إلى ترتيبات مالية أكثر مرونة مع شركات النفط.
  • إصلاح هيكل الدعم بما يقلل الضغط على الموازنة.

لكن، في ظل استمرار الضغط على الاحتياطي النقدي وارتفاع المديونية، سيظل شبح العجز عن السداد مؤثرًا على قرارات الحكومة في قطاع الطاقة وغيره.