أعلنت الحكومة المصرية مؤخرًا أن وتيرة انكماش القطاع الخاص غير النفطي قد تباطأت، في ما وصفته بأنه "مؤشر إيجابي" يُبشّر بانفراجة قريبة. ولكن، وعلى الجانب الآخر، لا تزال ضغوط التكاليف تتصاعد بشكل خانق على أصحاب الأعمال والمواطنين على حد سواء، في مشهد يعكس فجوة واسعة بين الواقع الميداني والرواية الرسمية.
فهل الحديث عن "تباطؤ الانكماش" هو مجرد تجميل للحقائق وتقديم مسكنات اقتصادية مؤقتة؟ أم أن هناك فعلًا تحسنًا ملموسًا؟ وكيف يمكن قراءة هذه التصريحات في ظل ما يعانيه القطاع الخاص من ارتفاع مستمر في أسعار المواد الخام، تقلبات سعر الصرف، وأعباء ضريبية متصاعدة؟
قراءة في أرقام مؤشر مديري المشتريات (PMI)
مؤشر مديري المشتريات (PMI) الصادر عن مؤسسة "ستاندرد آند بورز" يُعد من المؤشرات الدقيقة لقياس أداء القطاع الخاص غير النفطي.
وفي أحدث بياناته، سجّل المؤشر انكماشًا جديدًا لكنه بوتيرة أبطأ، أي أن هناك استمرارًا في التراجع ولكن بمعدل أقل مقارنة بالشهور السابقة.
ولكن المشكلة تكمن في كيفية تسويق هذا التباطؤ من قبل الحكومة على أنه تعافٍ، في حين أن:
- المؤشر لا يزال دون مستوى الـ 50 نقطة، وهو الخط الفاصل بين النمو والانكماش.
- الطلبات الجديدة ما زالت تتراجع، ما يعني انخفاض الطلب المحلي والخارجي.
- العمالة ما زالت في انكماش، مع استمرار تسريح العمال بسبب ضعف الإنتاجية.
- مستويات التفاؤل المستقبلية من قبل رجال الأعمال في أدنى مستوياتها منذ أعوام.
إذاً، الأرقام الرسمية تعكس استمرار الأزمة لا انتهائها، ولكن يبدو أن الحكومة تختار من البيانات ما يخدم روايتها السياسية والاقتصادية.
ضغوط التكاليف: المشكلة الحقيقية التي لا تنكر
بينما تتحدث الحكومة عن تباطؤ الانكماش، لا شيء يبرر أو يفسر الارتفاع الهائل في تكلفة الإنتاج التي تُشكل العنصر الأخطر في تدهور القطاع الخاص. ومن أبرز مظاهر هذه الضغوط:
- سعر الصرف
تحرير الجنيه، وتقلباته المستمرة، أديا إلى زيادة أسعار المواد الخام المستوردة.
تقارير من المصانع تشير إلى أن بعض المواد تضاعف سعرها ثلاث مرات خلال 12 شهرًا فقط.
- الفوائد البنكية
مع سياسة البنك المركزي لمواجهة التضخم، تم رفع أسعار الفائدة إلى مستويات خانقة.
أصحاب الأعمال باتوا عاجزين عن الحصول على تمويل بسبب ارتفاع تكلفة الاقتراض.
- الضرائب والرسوم
في محاولة لزيادة الإيرادات، تم فرض ضرائب جديدة ورفع رسوم الخدمات الحكومية.
قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة يتعرض لضغوط متزايدة تعوق نموه.
- الطاقة والوقود
رغم أن بعض الصناعات تحصل على أسعار "مدعومة"، إلا أن زيادة أسعار الغاز والكهرباء جعلت فاتورة الطاقة عبئًا كبيرًا على المصانع.
حالة القطاع الصناعي: نزيف مستمر
الصناعة تُعد العمود الفقري للقطاع الخاص، لكنها تمر بحالة نزيف حاد منذ أكثر من عامين:
- توقف جزئي أو كلي لعشرات المصانع.
- انخفاض الإنتاج بنسبة تتراوح بين 30-50% في بعض القطاعات.
- ارتفاع التكاليف أدى إلى تسعير المنتجات خارج قدرة المستهلك المحلي، ما خفض الطلب وأضعف العائدات.
العديد من المصنعين أصبحوا يفضلون تقليل الإنتاج على العمل بخسارة، والبعض الآخر يفكر في التصفية أو الانتقال لدول مجاورة توفر بيئة استثمارية أفضل.
الاقتصاد الدائري الحكومي: تدوير الأزمات لا حلّها
بدلاً من مواجهة الأزمة بجذرية، تعتمد الحكومة المصرية على تدوير الخطاب الاقتصادي وتقديم ما يشبه "المهدئات"، مثل:
- إعلان "تحسن طفيف" دون أثر حقيقي.
- تسويق استثمارات أجنبية لا تترجم على أرض الواقع بفرص عمل أو نمو في الإنتاج.
- الحديث المتكرر عن خطط إصلاح طويلة المدى لا يشعر المواطن بنتائجها.
الحكومة تراهن على الوقت، لكنها تفقد ثقة المستثمرين المحليين والأجانب الذين لا يكتفون بالكلام، بل ينظرون إلى المؤشرات الفعلية مثل تناقص السيولة، نقص المواد الخام، وتباطؤ الإنتاج.
ماذا يقول رجال الأعمال والخبراء؟
هشام عز العرب – مصرفي وخبير اقتصادي: "لا أحد ينكر أهمية الإصلاح الاقتصادي، لكن لا يمكن دفن الرأس في الرمال… القطاع الخاص يختنق بسبب التكاليف."
أحمد شيحة – خبير استيراد وتصدير: "رغم كل الوعود الحكومية، لا يزال رجال الأعمال يواجهون صعوبات كبيرة في الاستيراد وتمويل المشروعات، ما يعني أن الإصلاح مجرد حبر على ورق."
رانيا المشاط – وزيرة التخطيط سابقًا: "النمو الحقيقي لا يتحقق إلا بمشاركة قوية للقطاع الخاص، ولا يكفي جذب استثمارات بدون بيئة مستقرة ومنخفضة التكاليف."
الحكومة وغياب الدعم الفعلي
رغم الشعارات المستمرة حول "تمكين القطاع الخاص"، إلا أن الواقع يقول:
- لا توجد حوافز حقيقية للمصانع المتعثرة.
- شروط التراخيص والتشغيل ما زالت معقدة.
- التمويل محدود، خصوصًا للمشروعات الصغيرة والمتوسطة.
البيئة الاستثمارية في مصر تواجه منافسة شرسة من دول مثل المغرب، تركيا، والإمارات، حيث التكلفة أقل والبيروقراطية أضعف.
توصيات للخروج من المأزق
إذا كانت الحكومة جادة في دعم القطاع الخاص، فإن الخطوات التالية ضرورية:
- خفض سعر الفائدة تدريجيًا لتسهيل الاقتراض وتمويل الإنتاج.
- دعم الطاقة للمصانع الحيوية والصغيرة لخفض التكاليف.
- تحفيز التصدير بإلغاء الرسوم على المواد الخام.
- مراجعة وتبسيط منظومة الضرائب والرسوم الجمركية.
- إشراك القطاع الخاص في صياغة السياسات الاقتصادية وليس فقط سماعه دون تنفيذ.
في النهاية، لا أحد يُنكر أن مصر تمر بمرحلة اقتصادية معقدة، ولكن الاعتراف بالواقع هو الخطوة الأولى نحو الحل.
لا يمكن بناء اقتصاد حقيقي على بيانات منمقة، بينما المصانع تُغلق، والأسواق تشهد ركودًا، والمواطن يتحمّل الكلفة وحده.
المطلوب ليس فقط تباطؤ الانكماش، بل توقفه تمامًا وتحوله إلى نمو فعلي ومستدام، وهو ما لن يتحقق إلا بقرارات شجاعة تضع مصلحة الصناعة والإنتاج والعمالة أولًا، بعيدًا عن الأرقام السياسية التي لا تُطعم خبزًا.