تصريحات هاشم السيد، مساعد رئيس مجلس الوزراء والرئيس التنفيذي لوحدة الشركات المملوكة للدولة، تكشف بوضوح أن ما يسمى «حوكمة دور الدولة في النشاط الاقتصادي» ليس سوى الغطاء الفني والقانوني لمرحلة أعمق من تصفية شركات القطاع العام لصالح الدائنين والمستثمرين، تحت لافتة «الحياد التنافسي» و«كفاءة الإدارة».
الكلام عن أن الدولة «لا تبيع أصولها» يتهاوى أمام إقرار الرجل نفسه بإتاحة كل الخيارات: اندماج، انقسام، توسيع قاعدة الملكية، بيع حصص عبر البورصة، بل والبيع الكلي أو الجزئي والتخارج وفقًا لكل حالة، أي أن جوهر الفكرة هو تحويل ما تبقى من ثروة عامة إلى أوراق تفاوض وقطع استثمار عند الطلب.
وحين يؤكد أن الوحدة ستدار «بفكر القطاع الخاص» وبمباركة مباشرة من بعثة صندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الدولية، يصبح واضحًا أن الدولة لم تعد تكتفي بتقليص وجودها الإنتاجي، بل تتقدم بخطوات حثيثة لتسليم مفاتيح القطاع العام بالكامل لمنطق الربح السريع، ولو على حساب العمال والمجتمع والأمن الاقتصادي.
وحدة حوكمة أم غرفة عمليات للتصفية؟
من اللحظة الأولى، يقدّم هاشم السيد الوحدة الجديدة باعتبارها أداة لرفع «كفاءة إدارة الشركات المملوكة للدولة» عبر إعادة الهيكلة ومعالجة فائض العمالة وتوفير أفضل عائد للموازنة العامة، مع تأكيده اللفظي على «عدم المساس بالعمالة».
هذه اللغة المكررة سبق أن استُخدمت في كل موجات الخصخصة السابقة: تبدأ بالحديث عن التنظيم والحوكمة والكفاءة، ثم تنتهي إلى بيع أصول استراتيجية وتسريح عمالة وفتح الباب أمام احتكارات جديدة تلتهم السوق. الاعتراف بأن كل السيناريوهات مطروحة، من الاندماج والانقسام إلى البيع الكلي والجزئي والتخارج، يعني أن الوحدة ليست جهازًا للإنقاذ كما يتم تسويقه، بل غرفة عمليات مركزية لتجهيز الشركات واحدة تلو الأخرى للعرض في مزاد «نزع الملكية العامة» المقنّن، وتقديم ذلك للرأي العام على أنه «إدارة احترافية للثروات».
حياد تنافسي أم تنفيذ مباشر لوصفات الصندوق؟
الإشارة الصريحة إلى ترحيب بعثة صندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الدولية بالوحدة، وربط عملها بوثيقة سياسة ملكية الدولة، يكشف أن دور هذه الوحدة جزء من حزمة مشروطة مفروضة على مصر: تقليص وجود الدولة الإنتاجي، فتح قطاعات جديدة أمام رأس المال الخاص، وتسريع بيع الأصول لتعويض عجز الموازنة وخدمة الدين الخارجي.
وثائق الصندوق وتقارير بحثية مستقلة أوضحت خلال العامين الماضيين أن برنامج مصر يتضمن التزامًا ببيع أصول عامة بمليارات الدولارات، وإعادة صياغة سياسة ملكية الدولة بما يسمح بخروجها من عشرات الأنشطة لصالح مستثمرين محليين وأجانب، في مقدمتهم صناديق سيادية خليجية ومؤسسات مالية دولية. حين يتحدث هاشم السيد عن مراجعة الوثيقة وتحديثها «للتوافق مع التحولات الأخيرة»، فالمقصود عمليًا هو تعديل قواعد اللعبة بما يخدم تسريع التخارج من الشركات الأكثر ربحية وجاذبية، لا حماية ما تبقى من حضور عام في قطاعات حيوية كالغذاء والطاقة والنقل والخدمات الأساسية.
تحت شعار «الكفاءة»… استهداف العمال والحقوق الاجتماعية
إصرار المسؤول على أن الوحدة ستُدار بعقلية القطاع الخاص، وأن تخصصه هو «إعادة هيكلة الشركات الخاسرة»، يعني أن العمال يدخلون هذه المرحلة وهم عمليًا على خط النار، مهما حاول الخطاب الرسمي طمأنتهم بعبارات من نوع «لا مساس بالعمالة».
الحديث عن «فائض العمالة» و«تحقيق أفضل عائد» في بلد يعاني أصلًا من بطالة عالية، وفقر متصاعد، ودخول منهارة بفعل التضخم والضرائب غير المباشرة، يفضح أن الهدف ليس الحفاظ على الوظائف بل تعظيم الربحية، حتى لو كان الثمن تجميد أجور، إغلاق مصانع، أو دفع العمال إلى الخروج على المعاش المبكر أو الهجرة إلى القطاع غير الرسمي. ما يسمّى «رفع كفاءة الشركات» في خطاب حكومة الانقلاب يعني في الواقع نزع البعد الاجتماعي عن شركة القطاع العام وتحويلها إلى مجرد أصل مالي يجب أن يدر أكبر عائد ممكن لخدمة الموازنة والدائنين، لا لخدمة المجتمع أو ضمان الأمن الوظيفي أو توفير سلع وخدمات بأسعار عادلة.
صندوق مصر السيادي شريك في نقل الثروة من الشعب إلى المستثمرين
تأكيد هاشم السيد أن دور صندوق مصر السيادي لن يتهمّش، بل سيتم «توسيع نشاطه» بالتعاون مع وزارة الاستثمار، يضع النقاط على الحروف: الوحدة الجديدة ليست بديلًا للصندوق، بل شريكًا ومكمّلًا له في عملية نقل الأصول من الملكية المباشرة للدولة إلى منصات يمكن بيعها وتسييلها بهدوء لصالح مستثمرين وشركاء استراتيجيين. تقارير اقتصادية مستقلة وثّقت خلال العامين الماضيين أن الصندوق لعب دور منصة لطرح حصص في بنوك وشركات مملوكة للدولة، وبيع أصول وأراضٍ وشركات لمستثمرين خليجيين، في إطار خطة أوسع لتدبير عملة صعبة عبر بيع ما تبقى من «الفضة العائلية» للأجيال القادمة.
الآن تأتي وحدة الشركات المملوكة للدولة لتضيف طبقة جديدة من «الاحتراف» و«الذكاء الاصطناعي» و«قواعد البيانات»، لكنها في الجوهر تسعى إلى شيء واحد: تحويل شركات الشعب، الرابحة منها والخاسرة، إلى محافظ استثمارية تُدار بعقلية السمسار، لا الدولة الاجتماعية، في زمن انقلاب جعل كل شيء مباحًا من أجل استمرار السلطة، حتى لو كان الثمن هو تفكيك بنية الاقتصاد العام واغتيال ما تبقّى من مفهوم «الملكية العامة» في مصر.

