يواجه سوق الدواء المصري واحدة من أعنف أزماته على الإطلاق، فبينما تحتفل السلطات بتوقيع اتفاقيات تصدير أدوية مصنعة محلياً إلى كوبا ودول إفريقية، يشهد الداخل المصري نقصاً شديداً في الأدوية الأساسية، ما أثار تساؤلات حول أولويات الدولة وما إذا كانت التجارة الخارجية تأتي فعلاً على حساب صحة المواطن المصري.
توجّه قوي نحو تصدير الدواء
خلال النصف الأول من 2025، عززت مصر شراكاتها في قطاع تصنيع الدواء مع دول مثل كوبا، حيث التقى رئيس هيئة الدواء المصرية بالسفير الكوبي في يونيو لبحث تعزيز التعاون الثنائي ونقل التكنولوجيا ودعم تصدير الدواء المصري، لا سيما الأنسولين المصنع محلياً.
وصرح الدكتور علي الغمراوي، رئيس الهيئة، بأن مصر باتت مؤهلة للعب دور إقليمي محوري في صناعة الأدوية وتصديرها، مدعوماً بما حققته الهيئة من مستوى متقدم في التنظيم والجودة بحسب تصنيف منظمة الصحة العالمية.
من جهة أخرى، تستهدف مصر الأسواق الإفريقية بقوة، في ضوء كون السوق الإفريقية مرشحة لبلوغ 28 مليار دولار بحلول 2028، ويسعى قطاع الدواء المصري للحصول على موطئ قدم رئيسي هناك.
عجز السوق المصري.. أرقام صادمة
على الرغم من هذا الزخم التصديري، يعاني المواطن المصري من تدهور غير مسبوق في توافر الأدوية، وتفيد تقارير أن بعض الصيدليات الكبرى بالقاهرة سجلت اختفاء أكثر من 600 صنف دوائي أساسي خلال 2024 و2025، منها أدوية السكري والضغط والمضادات الحيوية وأدوية الأمراض المناعية، إضافة إلى المعدات الطبية وألبان الأطفال.
ويقدر مختصون كجمال الليثي، رئيس غرفة صناعة الدواء، أن 40% من الأدوية المتداولة في السوق المصري كانت ناقصة في منتصف 2024، مع نقص 15% منها دون وجود بديل فعلي بالأسواق.
تظهر الإحصاءات خلال صيف 2025 وجود عجز في ما يتراوح بين 200 إلى 300 مستحضر دوائي من الأكثر استخداماً في السوق المصري.
فيما تشير تصريحات رئيس شعبة الدواء باتحاد الغرف التجارية، علي عوف، إلى أن عدد الأدوية الناقصة خلال 2024 كان يتراوح حول 1,000 صنف، أي نحو 6% من الأصناف المتداولة وعددها 17,000 صنف.
أسباب الأزمة..
تعود جذور الأزمة وفق تصريحات السياسيين والاقتصاديين إلى عدة أسباب، في مقدمتها نقص النقد الأجنبي اللازم لاستيراد المواد الخام التي تشكل 91% من تركيبة الأدوية المنتجة محلياً، وهو ما أدى إلى تراجع الإنتاج المحلي وزيادة الاعتماد على الأصناف البديلة، إضافة إلى زيادة أسعار الدولار أمام الجنيه بنسبة قاربت 40% منذ مارس 2024، مما أدى إلى زيادة حادة في كلفة الإنتاج وعجز المصانع عن الوفاء بمتطلبات السوق المحلي.
وتفاقمت الأزمة مع استمرار السياسات الحكومية في تصدير الدواء إلى الخارج رغم أزمة الداخل، ضمن توجه لتعظيم الاحتياطي النقدي، في ظل عدم قدرة الهيئة الموحدة للشراء على توفير مستلزمات الإنتاج بالوتيرة المناسبة، كل ذلك دفع بعض المصانع إلى وقف خطوط إنتاجها أو تصدير منتجاتها بدلاً من توزيعها محلياً.
في محاولة لطمأنة الشارع، خرجت تصريحات رسمية حكومية في صيف 2024، أبرزها تصريح رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي في سبتمبر بأن “مصر عبرت أزمة نقص الأدوية بعد توفير كافة الأدوية الأساسية للمرضى”.
وأعلن رئيس هيئة الدواء في فبراير 2025 انتهاء أزمة نقص الأدوية بنسبة 98% وعودة الاستقرار للسوق المحلي.
إلا أن متابعين وشهوداً من أصحاب الصيدليات نفوا حدوث انفراجة حقيقية، مشيرين إلى أن بعض الأصناف تظهر فجأة بكميات قليلة ثم تختفي من جديد، ما يضطر المرضى للبحث عنها في السوق السوداء أو وسائل التواصل الاجتماعي بأسعار مغالى فيها.
كما أشار محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء، إلى أن ما يُعلن رسمياً عن انهاء الأزمة لا يعكس حقيقة معاناة آلاف المرضى مع استمرار نقص أصناف مهمة، منها أدوية الأمراض المزمنة أدوية الأورام والخصوبة.
إحصاءات من السوق
- تنتج مصر ما بين 8,000 و10,000 صنف من أصل 17,000 صنف مسجل بالفعل، بما يعني أن أقل من 60% من الأصناف مسموح بتداولها فعلياً.
- في 2025، تم رصد نقص 181 صنفاً حيوياً بين اختفاء كلّي أو نقص حاد، بينها عبوات الأنسولين الضرورية وشتى بدائلها.
- تبلغ مبيعات سوق الدواء نحو 5.7 مليار دولار بحسب توقعات فيتش لعام 2025، مقارنة بـ5.1 مليار دولار في 2024.
- خصصت الحكومة 1.6 مليار دولار لتمويل شراء أدوية الحالات المستعصية، في محاولة لاحتواء الأزمة حتى يونيو 2025.
- قررت هيئة الدواء التحول إلى نظام تتبع إلكتروني ونظام تسجيل موحد لضبط الأسواق ووقف التهريب والإتجار غير المشروع.
- تسعى شركات الدواء لزيادة أسعار كثير من الأصناف بنسبة تصل إلى 100% لتعويض ارتفاع تكاليف الإنتاج وهو ما يعارضه مسؤولو ضبط الأسعار في الدولة.
السوق السوداء..
فرض عجز الأدوية واقعا جديدا في مصر، حيث انتعشت مافيا بيع الأدوية غير المرخصة وبقايا العبوات من مخازن “تحت بير السلم” على وسائل التواصل، مع استغلال حاجة المرضى وقلة الرقابة، وهو ما مثل تهديدا مُضاعفا لصحة المصريين.
ويشير مسؤولون إلى أن شكوى المواطنين من غلاء الأدوية ترجع أيضًا للجوء البعض لتخزين ما تيسر لهم من العلاجات خوفاً من تكرار النقص.
لماذا تظهر بعض الأدوية فجأة وتختفي سريعاً؟
يرجع محللون هذه الظاهرة إلى عدة عوامل:
- الإفراج المفاجئ عن شحنات متراكمة بعد توفير الاعتمادات الدولارية ثم تلاشي الكميات سريعا حسب حجم الطلب.
- لجوء بعض الموردين لتوزيع كميات محدودة لتشجيع رفع الأسعار أو تعزيز السوق السوداء.
- استمرار تصدير بعض الأصناف للخارج رغم أزمة الداخل بغرض تعزيز العملة الصعبة.
أزمة صحة عامة..
أجمع الخبراء والسياسيون -منهم علي عوف وجمال الليثي- على أن استمرار تصدير الأدوية في ظل أزمة السوق الداخلية يرقى إلى تهديد الصحة العامة وخطر انهيار قطاع صناعة الدواء المصري، ما لم تُعَدل الأولويات بإعطاء الأولوية للمريض المصري.
كما دعا هؤلاء إلى إعادة النظر في منظومة التسعير، وتخفيض الاعتماد على الاستيراد عبر دعم الصناعة المحلية، وتشديد الرقابة على السوق السوداء.
وبينما تؤكد الحكومة أن منظومة تنظيم سوق الدواء شهدت تطورات كبيرة ودعما استراتيجياً لتأمين المخزون، إلا أن الانتقادات تتواصل بشأن تغليب صالح التصدير على احتياجات المصريين، وتبدو أزمة الأدوية في مصر أزمة مركبة ذات أبعاد نقدية واقتصادية وتنظيمية