د. سليمان صالح

أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة

 

فرض فوز روزفلت على علماء الإعلام مراجعة نظرياتهم ونقدها وإنتاج نظريات جديدة تشكل أساسًا لاستراتيجيات إعلامية، بعد أن أدركوا أن الحملات الدعائية فشلت في توجيه الجمهور والتأثير فيه، لذلك ظهرت نظرية التأثير المحدود لوسائل الإعلام بديلا لنظرية الرصاصة أو الحقنة تحت الجلد.

 

وفوز زهران ممداني يفرض على علماء الإعلام أن يتوقفوا لينقدوا نظرياتهم وينتجوا نظريات جديدة تتناسب مع عصر جديد، فأهم نتيجة لفوز ممداني أن النظام الإعلامي الأمريكي بكل قوته وأساليبه المتطورة فشل في تشكيل اتجاهات الشباب أو التأثير فيها. لذلك يجب أن ندرس خصائص هذا الجيل واهتماماته وأساليبه في الحصول على المعرفة من وسائل بديلة، بعد أن فقد ثقته في وسائل الإعلام التقليدية التي كذبت عليه كثيرًا.

 

فشل استراتيجيات التخويف!

 

هذا الجيل الجديد هزم الخوف؛ لذلك فشلت استراتيجيات التخويف التي استخدمتها وسائل الإعلام الأمريكية في التحكم فيه وتوجيهه. وقد بالغت هذه الوسائل في تخويف الأمريكيين والأوروبيين من الإسلام بعد أحداث 11 سبتمبر، فدفعتهم لتأييد العدوان الأمريكي على أفغانستان والعراق، وكانت النتيجة هزيمة أمريكا وإرغامها على أن تجلس على طاولة المفاوضات مع ممثلي طالبان الذين كانت تعتبرهم «إرهابيين».

 

جيل يثور على الرأسمالية!

 

لقد سيطرت الرأسمالية على النظام الإعلامي الأمريكي، ومنعت وسائل الإعلام من توجيه النقد لمجموعة المليارديرات الذين سيطروا على الحكم، واعتبروا أن فوز ترامب بداية عصرهم الذهبي في التحكم في الجماهير وتشكيل العالم كله ليحقق مصالحهم في نهب ثروات الشعوب.

 

لذلك أنفقوا المليارات لكي يمنعوا فوز شاب يتبنى احتياجات الجماهير ويدافع عنها ويتحدى الرأسمالية، لكن النتيجة خيبت آمالهم وشكلت لهم صدمة. ومع ذلك ما زال ترامب والرأسماليون الذين يحيطون به يصرون على استكبارهم، ويبحثون عن تفسيرات زائفة للحدث الذي سيفتح المجال أمام صعود سياسيين جدد في أوروبا يتحدون الرأسمالية ويعادون أمريكا ويقدمون أنفسهم للجماهير بأفكار جديدة.

 

وسائل إعلامية عاجزة.. لماذا؟!

 

لكن أهم ما يجب أن يفكر فيه ترامب والرأسماليون الذين يتحكمون في وسائل الإعلام هو أن الجيل الجديد لم يعد يصدق هذه الوسائل التي يتحكمون فيها، ولم يعد يتابع شبكات التلفزيون الأمريكية رغم كل وسائل الجذب والإبهار التي تستخدمها. فهذه الوسائل لا تستطيع أن توجه نقدًا للرأسمالية أو لنظام الحكم الأمريكي، ولا تستطيع القيام بوظيفتها «ككلب حراسة» للمجتمع، يكشف الفاسدين ويحذر من الأخطار التي تهدد وجوده، ومن أهمها العنصرية والبطالة والجشع الرأسمالي والصراعات التي يخلقها الأغنياء لإلهاء الفقراء ومنعهم من التعبير عن آلامهم.

 

والجيل الجديد هو أكثر من يعاني من قسوة الرأسمالية وجشعها، وفوز ممداني مجرد إشارة إلى الغضب المتراكم في نفوس الشباب الذي سينفجر فجأة ليتحول إلى ثورة شاملة.

 

لا مستقبل لهذا الجيل!

 

وسائل الإعلام التي يسيطر عليها الرأسماليون لا تستطيع التعبير عن هذا الجيل الجديد، ولا تتحدث عن مشاكله وهمومه وآلامه. وهي لا تستطيع أن تكشف الحقيقة وهي أن هذا الجيل لن يبني مستقبله إن لم ينفجر ويشعل ثورة ضد الرأسمالية المتوحشة وضد كل الأفكار التي فرضتها أمريكا على العالم خلال القرن العشرين، وأهمها العولمة والأمركة.

 

وهذه الوسائل الإعلامية التي تسيطر عليها الرأسمالية لا تفتح المجال لكتاب وصحفيين يمتلكون الشجاعة للتعبير عن هموم الجيل الجديد وأحزانه، ويحذرون من خطورة الوحشية الأمريكية، ويوضحون أن العداء لأمريكا يتزايد في كل أنحاء العالم.

 

يجب أن يخاف نتنياهو!

 

أما وسائل الإعلام الإسرائيلية فقد عبرت عن حالة قلق تعيشها إسرائيل والمؤيدون لها، حيث قال وزير الهجرة الإسرائيلي: «إن نيويورك سلمت مفاتيحها لمؤيد لحماس»، وقالت صحيفة جيروزاليم بوست إن فوز ممداني سيؤثر على اليهود في العالم، ووصف معهد الأبحاث الإسرائيلي هذا الفوز بأنه يشكل تحديًا جوهريًّا لإسرائيل.

 

لكن الحقيقة هي أن فوز ممداني مجرد مؤشر على تحولات سياسية في الولايات المتحدة، فمن أسباب فوزه إدانته للإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل، ووصفه لممارساتها بالعنصرية «الأبارتايد»، ودعمه لحركة مقاطعة إسرائيل. لذلك جمع اليهود في نيويورك قوتهم وأنفقوا أموالهم لمنع فوزه.

 

يشكل هذا الفوز تغيرًا في اتجاهات الشباب الأمريكي نحو إسرائيل، وهو امتداد لمظاهرات الطلاب في الجامعات الأمريكية ضد جريمة الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل، والتي تشكل عارًا على الإنسانية.

 

شباب ضد الصهيونية والقوة الغاشمة!

 

الأهم من كل ذلك أن الشباب لم يعد يحصل على الأخبار والصور من النظام الإعلامي الأمريكي المتحيز لإسرائيل، الذي يخفي الحقائق عن الجريمة ضد الإنسانية التي ترتكبها في غزة. فالشباب يبحث بنفسه عن المعلومات ويتبادلها عبر وسائل وتطبيقات خارج سيطرة إيلون ماسك.

 

وقد أدرك الشباب أن أمريكا هي التي تنفق على إسرائيل وتوفر لها وسائل القوة الغاشمة التي تستخدمها في إبادة شعب فلسطين وتدمير غزة، وأن ترامب قلل الإنفاق على التعليم والصحة ليوفر لإسرائيل أسلحة تستخدمها في القتل والتدمير.

 

ولم يعد هذا الشباب يخاف من الاتهام بالعداء للسامية الذي تم استخدامه في تقييد حرية التفكير والتعبير والرأي والإعلام، ولم يعد يخاف من تهديدات ترامب. وهذا ما سيحدث في أوروبا وكل قارات العالم، فالشباب أصبح خارج النظام الإعلامي العالمي، ولم يعد يثق في وسائل الإعلام أو الأحزاب أو في خطاب السياسيين التقليديين، أو في كل الأفكار التي تطورت في القرن العشرين.

 

كما تزايدت كراهية الشباب للرأسمالية والصهيونية والدكتاتورية ووسائل الإلهاء العام وتزييف الوعي، لذلك سينطلق في كل دول العالم لاختيار قياداته التي تعبر عنه وتمتلك القدرة على تحدي النظم كلها.

 

ولن ترهب هذا الشباب القوة الغاشمة، فهو لا يخشى الموت، وليس أمامه سوى أن يثور. ولقد عبر الشباب الأمريكي عن غضبه بانتخاب زهران ممداني، أما في كثير من دول العالم -خاصة الجنوبية الفقيرة- فسيعبر بوسائل أخرى ليس من بينها الانتخابات التي يدرك أنها زائفة ومصنوعة. وربما لا تكون المظاهرات هي الوسيلة المناسبة، وعلى كل النظم أن تخاف من هذا الشباب وتتعامل معه باحترام، فهو القوة القادمة لتغيير العالم!