شهدت العاصمة الليبية طرابلس، يومَي 12 و13 مايو 2025، اشتباكات مسلحة بين تشكيلات عسكرية موالية لحكومة الوحدة الوطنية وأخرى تابعة للمجلس الرئاسي، عقب مقتل قائد جهاز دعم الاستقرار، عبد الغني الككلي، أعقبتها مظاهرات تخللتها أحداث عنف واشتباكات تركّزت في حي أبوسليم، مقر قيادة الككلي، ومنطقة تاجوراء وأحياء شمال غرب العاصمة، حيث يتمركز جهاز الردع وجهاز الشرطة القضائية.
وتأتي هذه الاشتباكات في سياق سياسي مأزوم وانقسامات بين مختلف الفرقاء وتصاعد في وتيرة التدخلات الإقليمية والدولية.
 

مواجهات مسلحة وشارع محتقن
   
شهدت طرابلس، في الأيام السابقة للاشتباكات أخيراً، استنفاراً وتحشيداً للآليات والمسلحين في مختلف أحيائها وجوارها، وجرى رصد توجّه أرتال من الآليات العسكرية من المدن الأخرى، خاصة مدينة مصراتة، مع تواتر الأنباء عن تصاعد حدة الخلافات بين قادة التشكيلات المنضوية تحت مظلة وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، وأبرزها اللواءان 444 و111 من جهة، والأجهزة الأمنية الخارجة عن سيطرتها، وفي مقدمتها جهازا دعم الاستقرار والردع، من جهة أخرى.
ووردت أنباء أيضًا عن اقتحام تشكيلات عسكرية من مصراتة والمدن المجاورة مقرات جهاز دعم الاستقرار في مدينة زليتن ومحيطها.
وفي مساء الإثنين، 12 أيار/ مايو 2025، تواترت الروايات عن مقتل الككلي وعدد من أفراد حمايته، إضافة إلى مقتل وإصابة أفراد وضباط من التشكيلات العسكرية القادمة من مصراتة، في ظروف وصفت بـ "الغامضة"، في أثناء حضورهم اجتماعًا لقادة التشكيلات العسكرية والأمنية في معسكر التكبالي جنوب طرابلس، حيث مقر اللواء 444 قتال التابع لوزارة الدفاع.

وفي إثر مقتل الككلي، اندلعت اشتباكات ضارية بين جهاز دعم الاستقرار واللواء 444، تمكّن خلالها الأخير، مدعومًا باللواء 111، وكلاهما يتبع لوزارة الدفاع، من السيطرة على جميع مقرات الجهاز في العاصمة، بما فيها مقره المركزي في حي أبوسليم، واستولى على جلّ آلياته وعتاده، كما حرر مجموعة من السجناء من معتقلات تابعة للجهاز.

وعلى الرغم من انتشار بعض مظاهر الفوضى والنهب في حي أبوسليم عقب الاشتباكات التي آلت إلى بسط سيطرة اللواء 444 على الحي، فإن حدّة الاشتباكات تراجعت وعادت الحياة تدريجيّاً إلى جل مناطق العاصمة صباح اليوم التالي.
لكنّ ذلك لم يدم طويلاً، إذ اندلعت مواجهات ضارية مساء يوم الثلاثاء، 13  مايو 2025، بين اللواء 444 وجهاز الردع الذي يسيطر، بمساندة من جهاز الشرطة القضائية، على مناطق شمال شرق العاصمة، بما فيها مطار معيتيقة والميناء البحري وعدد من السجون ومراكز الاحتجاز.

تمكّن اللواء 444 من تحقيق تقدّم ميداني في المواجهات مع جهاز الردع في بداية الاشتباكات، ثم جرت وساطات من شخصيات عسكرية واجتماعية لوقف إطلاق النار.
وتولّت قوة مكافحة الإرهاب، وهي تشكيل عسكري تابع لوزارة الدفاع وجل منتسبيه من مصراتة، الفصل بين المتنازعين، وجرى سحب قوات اللواء 444 من حي أبوسليم ونشر دوريات من جهاز دعم مديريات الأمن (جهاز أمني تابع لحكومة الوحدة الوطنية لم يشارك في الاشتباكات) مكانه.

لم يؤدِّ تراجع حدة الاشتباكات المسلحة بعد يومين من المعارك إلى ظهور أيّ بوادر للتهدئة؛ إذ انتشرت دعوات على شبكات التواصل الاجتماعي إلى التظاهر في ميدان الشهداء وسط العاصمة للتنديد بما حدث، والمطالبة برحيل حكومة الوحدة الوطنية ورئيسها.
وعلى الرغم من أن الاستجابة لهذه الدعوات لم تكن واسعة، فإنها لم تخلُ من مظاهر عنف؛ فقد تعرضت آليات أمنية للحرق في حي أبوسليم، كما حاولت مجموعة من المتظاهرين اقتحام مقر رئاسة الوزراء بالتزامن مع إطلاق النار على القوة الأمنية التي تتولى حمايته، ما أدى إلى مقتل أحد عناصر الحراسة.
 

ردود أفعال تفاقم الانقسام
   
قوبلت الاشتباكات التي شهدتها العاصمة والمظاهرات التي تلتها بردود أفعال متوتّرة من مختلف الفرقاء.
فقد أكد الدبيبة، بعد مقتل الككلي، أن ما جرى في حي أبوسليم "كان خطوة ضرورية لإنهاء وجودٍ تمادٍ في تجاوز القانون، وارتبط بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان"، متهمًا قادة التشكيلات الأمنية المستهدفة بارتكاب جرائم الابتزاز والفساد والسرقة والتعذيب والاغتصاب والاحتجاز خارج القانون.
كما شنّ هجوماً على رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، واللواء المتقاعد خليفة حفتر، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، المتنازع على رئاسته، خالد المشري، مؤكدًا أنهم "يريدون أن يبقى الليبيون تحت رحمة الميليشيات لكي يدعموهم ويتحركوا من خلالهم"، مشيرًا إلى أن "جل المجتمع الدولي يدعمه"، متعهدًا بالمضي قُدمًا في مشروع "ليبيا خالية من المليشيات والفساد".
ويُشار إلى أن الدبيبة أصدر، في اليوم الثاني من الاشتباكات، قرارات بحلّ أجهزة أمنية مقربة من جهاز الردع وإلحاق أخرى بوزارة الداخلية.

أما رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، فقد استقبل وفوداً من الأحياء التي شهدت اشتباكات مسلحة، مؤكّدًا أن "الوطن يمرّ بمنعطف خطير، يستوجب توحيد الجبهة الداخلية والالتفاف حول مشروع وطني جامع"، كما أصدر قراراً بـ "تجميد قرارات حكومة الوحدة الوطنية ذات الطابع العسكري أو الأمني في إعادة هيكلة المؤسّسات الأمنية أو تكليف أشخاص بمهام عسكرية أو أمنية في حدود الاختصاصات الانتقالية للحكومة".
وأصدر رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، بيانًا دان فيه "سلوك حكومة الوحدة الوطنية منزوعة الثقة"، محمّلًا إياها "المسؤولية الوطنية والقانونية والأخلاقية على الأحداث الجارية في مدينة طرابلس"، داعياً المجلس الأعلى للدولة إلى التواصل معه و"مباشرة العمل والتنسيق لتشكيل حكومة موحدة في أسرع وقت".

وفي السياق ذاته، اعتبر المشري أن حكومة الدبيبة "فقدت شرعيتها سياسيّاً وقانونيّاً وشعبيّاً، ولم تعد تمثّل إرادة الليبيين، وعليه فإنها تُعد حكومة ساقطة الشرعية"، مطالباً عقيلة صالح بـ "البدء في إجراءات تكليف شخصية وطنية تتولى مهام رئاسة حكومة مؤقتة".

توحي ردود أفعال الفرقاء أن المواجهات المسلحة والمظاهرات التي تلتها لم تكن سوى انعكاس لحالة احتقان سياسي شديد، مع إصرار كل طرف على المضي في مشروعه.
ويؤكد ذلك تصميم الدبيبة على الحفاظ على المكاسب الميدانية التي حققتها القوات الموالية له بإزاحة الككلي، أقوى قادة الميليشيات في طرابلس، والسيطرة على حي أبوسليم، أكبر أحياء العاصمة، معتمدًا على ولاء تشكيلات عسكرية وازنة، على غرار اللواء 444 وبعض الكتائب المحسوبة على مدينة مصراتة، إضافة إلى السيطرة على مواقع عدة شمال شرق العاصمة، ووضع خصومه في موقف حرج، مستثمراً الإحاطة التي قدّمها المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، واتهم فيها قائد جهاز الشرطة القضائية، المقرب من قائد جهاز الردع، رؤوف كاره، بالفساد وممارسة التعذيب والاغتصاب واحتجاز أشخاص خارج القانون، ومطالبته باعتقاله وتسليمه إلى المحكمة.

أما حفتر وصالح والمشري، فيراهنون، على ما يبدو، على حراك الشارع الرافض استمرار حكومة الدبيبة ولمظاهر الفوضى التي انتشرت في بعض الأحياء عقب المواجهات المسلحة، وعلى التناقضات بين الحكومة والمجلس الرئاسي، إضافة إلى إمكانية تحويل ولاء بعض التشكيلات المسلحة في شرق العاصمة ومدينة الزاوية.
ويبدو أن معسكر حفتر – صالح - المشري يسعى للاستفادة، أيضًا، من مشروع اللجنة الاستشارية، التي أنشأتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، واقتراحه خريطة طريق تفضي إلى الانتخابات تتضمن تشكيل حكومة جديدة، حيث شرعت لجنة مشتركة من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في عقد اجتماعات في بنغازي لفرز ملفات المرشحين لرئاسة الحكومة.
 

السياق السياسي للأزمة
   
لم تكن الاشتباكات التي اندلعت أخيراً منفصلة عن السياق السياسي الذي تشهده ليبيا عموماً، والمنطقة الغربية خصوصاً، مع ارتفاع حدة التجاذبات وتواتر المبادرات الداعية إلى التوافق على حكومة جديدة بدلًا من حكومة الوحدة الوطنية المنبثقة من الحوار السياسي الليبي في تونس وجنيف عام 2020، والتي يرأسها الدبيبة.
وعلى الرغم من توافق المشاركين في الحوار، حينها، على حكومة وحدة وطنية ومجلس رئاسي وخريطة طريق تنتهي بإجراء انتخابات عامة تؤدي إلى توحيد المؤسسات السياسية وإنهاء الانقسام، فإن هذا التوافق لم يصمد طويلًا؛ إذ عمد مجلس النواب إلى سحب الثقة من حكومة الدبيبة بعد عام من تشكيلها، ومنح الثقة لحكومة فتحي باشاغا، قبل سحب الثقة منه هو الآخر، في إثر عجزه عن دخول طرابلس، ومنحها لأسامة حمّاد، ليعود الانقسام وتنازع الشرعية بين حكومتين؛ حكومة معترف بها دوليًا في طرابلس، وحكومة موازية في بنغازي.

وعقب تعثّر إجراء الانتخابات التي نصّت عليها خريطة الطريق التي طرحها منتدى الحوار السياسي الليبي، وفي خضمّ تعمّق الانقسام المؤسساتي والجمود السياسي، شكّلت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في شباط/ فبراير 2025، لجنة استشارية من عشرين عضوًا من السياسيين والأكاديميين ونشطاء المجتمع المدني والخبراء القانونيين تتولى مهمة تقديم مشاريع قوانين انتخابية، منها واحد للانتخابات البرلمانية وآخر للانتخابات الرئاسية، بهدف توجيه أصحاب المصلحة الليبيين نحو تنفيذ خريطة طريق قابلة للتطبيق من أجل إجراء الانتخابات.

وقبل اندلاع هذه الاشتباكات بيوم، أعلنت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة استكمال أعمال اللجنة، واجتمعت بكل من رئيس المجلس الرئاسي ونائبيه ورئيس حكومة الوحدة الوطنية لتقديم مخرجات أعمال اللجنة، مؤكدة أن التقرير "بما يتضمنه من توصيات وخيارات، سيشكّل أساسًا للحوار مع جميع الأطراف المعنية بشأن خارطة طريق توافقية تقود إلى الانتخابات".

من المبكر استشراف حظوظ المشروع الجديد لبعثة الأمم المتحدة بعد هذه الاشتباكات، غير أن معطيات عدة تشير إلى أن الطريق أمام البعثة لن يكون سهلًا.
فقد سبق أن قدّم مبعوثون آخرون مشاريع للخروج من الأزمة السياسية انتهت بالفشل لأسباب عدة، من بينها عمق الهوة بين مواقف الفرقاء الليبيين، وافتقار بعثة الأمم المتحدة إلى آليات ملزمة لتنفيذ مشاريعها.

وتضيف الاشتباكات المسلحة الأخيرة والمظاهرات التي تلتها عاملاً جديداً لتعميق الانقسام وتعقيد مساراته بالانتقال من تشظٍّ مؤسساتي وسياسي بين المنطقة الغربية الخاضعة لسلطة حكومة الوحدة الوطنية والمنطقتين الشرقية والجنوبية الخاضعتين لسلطة حفتر والحكومة الموازية برئاسة أسامة حماد، إلى انقسامات داخلية في المنطقة الغربية وطرابلس؛ ما يضعف فرص توفير إطار مؤسساتي أو سياسي للتعامل مع مشروع بعثة الأمم المتحدة.
 

مرحلة انتقالية بوجوه جديدة؟
   
تعدّ الاشتباكات المسلحة أخيراً، والاحتقان السياسي الذي تلاها، الانقسام الأكثر حدة في المنطقة الغربية منذ الأحداث التي رافقت عملية "فجر ليبيا" عام 2014؛ ما يشير إلى أن تداعياتها الأمنية والسياسية قد تفرز وضعًا أمنيًا وسياسيًا ومؤسساتيًا مختلفًا عن التوازنات التي ظلت سائدة طوال الأعوام الماضية، خاصة منذ التوافق على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بموجب مخرجات منتدى الحوار السياسي الليبي في تونس وجنيف.

قد تدفع نتائج هذه الأزمة القوات الموالية للدبيبة إلى استثمار الفرصة وتفكيك الأجهزة العسكرية لخصومها، خاصة جهاز الردع، إما بعمليات عسكرية مدروسة، وإما بالتفاوض مع حاضنتها الاجتماعية وتقديم ضمانات لضمّ منتسبيها إلى وزارتَي الدفاع والداخلية، أو بشراء ولاء بعض قياداتها الميدانية.
وفي المقابل، يبدو معسكر حفتر - صالح عازماً على الاستثمار في أحداث طرابلس إعلاميّاً، لتحريك الشارع وإظهار حجم الرفض لحكومة الدبيبة في المنطقة الغربية عموماً والعاصمة خصوصاً، والمضي في مشروع تشكيل حكومة جديدة يجري ترويجها بصفتها حكومةً تنهي وضع الانقسام المؤسّساتي الحالي، بالشراكة مع المجلس الأعلى للدولة، مع استبعاد إقدام قوات حفتر على شنّ عمل عسكري على العاصمة، على غرار ما حدث عامَي 2019 و2020، من دون ضوء أخضر دولي.

تبيّن التجارب السابقة أن أيّ محاولة لإحداث تغيير في توازنات الحكم في ليبيا لا تنجح من دون مساندة أو مواكبة دولية وأممية؛ فالحوار السياسي الليبي الذي أفرز المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج عام 2015، والحوار السياسي الذي أدّى إلى التوافق على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة والمجلس الرئاسي برئاسة المنفي عام 2021، جاءا برعاية دولية وأممية.
لذلك، قد يمثل المشروع الذي أعدّته اللجنة الاستشارية التي شكّلتها بعثة الأمم المتحدة إطارًا لكسر الجمود الحالي، سواء بالصيغة المقدّمة أو بعد إدخال تعديلات عليه وتوسيع قاعدة المشاركين في صياغته.
 

خاتمة
   
لم تكن الاشتباكات التي شهدتها العاصمة طرابلس حدثاً مفاجئاً، في ظل الاستقطاب السائد، لكنّها تعدّ المواجهة الأوسع في العاصمة منذ عام 2014 والأشد أثراً باستهداف أكبر تشكيل مسلح وقتل قائده المعروف بسطوته الأمنية ونفوذه الواسع على المؤسسات السياسية والمالية والخدمية.
وعلى الرغم من المكاسب الميدانية السريعة التي حققتها التشكيلات الموالية لحكومة الوحدة الوطنية، فإن الحسم الميداني الكامل يبدو بعيد المنال؛ ما يدفع إلى توقّع مزيد من الاحتقان في ظل تشعّب مسارات الانقسام وإصرار الفرقاء على مواقفهم.
غير أن مؤشّرات عدة تدفع إلى توقّع تدخّل دولي وأممي قريب بحزمة ترتيبات تفرز خريطة طريق نحو الانتخابات وسلطة انتقالية بوجوه جديدة، قد تشمل خروجاً مدروساً للفرقاء الحاليين.
ولكنه يبقى خروجاً مؤقتاً وإدارة مرحلية للأزمة، فمن الخطأ توقّع أن تكون القوى الدولية أكثر حرصاً على وحدة الدولة وسيادتها من القوى السياسية الرئيسة في ليبيا التي ما زالت علاقاتها المتبادلة تفتقر إلى عنصر الثقة، ولم تحزم أمرها بعدُ بشأن إعلاء وحدة الدولة وسيادتها على الخلافات وصراعات النفوذ، بحيث تخضع الثانية للأولى، وتُدار سلميّاً في إطار مؤسّساتها.