بينما تتصاعد ألسنة اللهب والدخان من أنقاض غزة، وتتحول أحياءها إلى رماد بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، تكشف بيانات رسمية إسرائيلية ومصرية عن قفزة غير مسبوقة في صادرات مصر من الأسمنت إلى إسرائيل، لتتضاعف بـ13 مرة خلال 17 شهراً من القصف المتواصل، في أكبر طفرة تجارية في هذا القطاع منذ بدء العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.

الوثائق الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الإسرائيلي، والمجلس التصديري لمواد البناء والصناعات المعدنية المصري، إلى جانب تتبع حركة السفن في البحر المتوسط، تكشف أن مصر أصبحت في طليعة الدول التي تسدّ نقص مواد البناء في السوق الإسرائيلي، بعد قرار تركيا فرض قيود على تصدير الأسمنت احتجاجاً على الحرب.

أرقام صادمة: 223 مليون دولار إسمنت مصري لتل أبيب خلال الحرب
تشير البيانات إلى أن قيمة صادرات مصر من الأسمنت إلى إسرائيل بين أكتوبر 2023 وفبراير 2025 بلغت 223.3 مليون دولار، مقارنة بـ17.1 مليون دولار فقط في الفترة نفسها قبل الحرب، ما يمثل ارتفاعاً بنسبة تفوق 1200%.

وبلغت ذروة الصادرات في ديسمبر 2024 بنحو 28.2 مليون دولار في شهر واحد، ثم تراجع طفيف في يناير 2025 (26.1 مليون دولار)، ما يُظهر اتجاهاً تصاعدياً حاداً في تدفق المادة التي تُعد من الأعمدة الأساسية في عمليات البناء والبنية التحتية.

 

إسرائيل تحتل المرتبة الرابعة بين مستوردي الأسمنت المصري

   رغم الغموض الذي يلف الفارق بين الأرقام المصرية والإسرائيلية، فإن البيانات المحلية المصرية تؤكد بدورها هذا التصاعد الكبير. فقد بلغت صادرات الأسمنت من مصر إلى إسرائيل في عام 2024 وحده 50.7 مليون دولار (حسب المجلس التصديري المصري)، وهي الأعلى منذ بدء العلاقة التجارية بين البلدين في هذا المجال، لتصبح إسرائيل رابع أكبر مستورد للأسمنت المصري.

 

استغلال الفجوة التركية.. من أنقرة إلى القاهرة
   الطفرة في الصادرات المصرية جاءت بعد خطوة سياسية اتخذتها تركيا في أبريل 2024، بوقف تصدير عشرات السلع إلى إسرائيل، في مقدمتها الأسمنت، احتجاجاً على العدوان على غزة، ما أحدث فجوة سريعة في سوق البناء الإسرائيلي.

خلال الفترة التي سبقت القرار التركي، كان المتوسط الشهري للصادرات المصرية من الأسمنت إلى إسرائيل 2.6 مليون دولار، لكنه ارتفع إلى 20.4 مليون دولار بعد القرار، بزيادة تجاوزت 660%.

جسر بحري من "العريش العسكرية" إلى موانئ إسرائيلية
المثير في هذه التجارة أن عملية التصدير لم تقتصر على الأرقام فقط، بل رافقها تشكيل فعلي لما يشبه "جسراً بحرياً" لنقل الأسمنت بين مصر وإسرائيل. تتبع حركة 8 سفن شحن خلال الفترة بين مارس وأبريل 2025 أظهر أنها كانت تبحر بشكل شبه حصري بين ميناء العريش المصري العسكري، وميناءي حيفا وأشدود الإسرائيليين.

تُبحر هذه السفن تحت أعلام أجنبية، وتقضي أياماً في العريش، قبل أن تتوجه إلى إسرائيل وتعود محملة مجدداً، ما يشير إلى أن البنية التحتية اللوجستية المصرية تم تسخيرها لخدمة احتياجات الاحتلال الإسرائيلي من مواد البناء خلال الحرب.

 

صمت رسمي وتفاوت في الأرقام
   رغم التفاوت الكبير بين أرقام المجلس التصديري المصري (50.7 مليون دولار في 2024) والأرقام الإسرائيلية التي تشير إلى أكثر من 120 مليون دولار خلال الفترة ذاتها، رفض المجلس المصري الرد على تساؤلاتنا حول أسباب هذا الفارق أو احتمال التلاعب في الأرقام.

 

الإسمنت يُبنى هناك.. ويُهدم هنا
   في الوقت الذي تتكدس فيه شحنات الأسمنت المصري في الموانئ الإسرائيلية لإعادة إعمار المستوطنات أو تعزيز البنية التحتية الداخلية، تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 92% من منازل غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، فيما وصل عدد الشهداء والجرحى إلى أكثر من 168 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وما يزال أكثر من 11 ألف شخص في عداد المفقودين.

وتُقدر كمية الركام في غزة حالياً بنحو 50 مليون طن، وتؤكد الأمم المتحدة أن إزالته وحدها تحتاج إلى عقود من العمل المتواصل بالموارد الحالية.