لا ينبغي أن يفاجأ أحد بما يقوله أو يفعله دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة؛ فهو رجل ذو فهم محدود للأحداث العالمية ومعرفة سطحية للغاية بالجغرافيا السياسية وديناميكياتها.
يرى العالم بأسره كمشروع عقاري ضخم، حيث يتخيل نفسه المطور الرئيسي، يقرر أين تُبنى الفنادق وكيف تبدو مواقف السيارات الحديثة.
لكن ما يقوله، رغم افتقاره للمنطق أحيانًا، قد تكون له تداعيات خطيرة نظرًا لموقعه كرئيس لأقوى دولة في العالم؛ فهو يعتقد أن خبرته في عالم الأعمال تؤهله للخوض في السياسة الدولية، حتى وإن كانت تصريحاته تبدو ساذجة أو غير واقعية.
ترامب .. وحلوله الكارثية للصراعات الدولية
خلال ولايته الأولى، رأينا كيف تعامل ترامب مع كوريا الشمالية بأسلوب غير تقليدي، رغم افتقاره للفهم العميق للسياسة العالمية؛ لكن ما أعلنه يوم الثلاثاء 4 فبراير كان صادمًا، حتى لأشد الصهاينة تطرفًا.
لم يتوقع أي سياسي صهيوني أن يقف رئيس أمريكي ليؤيد ويدعم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين بهذا الشكل الصريح والساذج.
وقف بنيامين نتنياهو، المعروف بمهاراته الخطابية، عاجزًا عن الرد بعد سماع ترامب يتحدث عن "الاستيلاء" على غزة وإدارتها كما لو كانت مجرد قطعة أرض مهجورة تحتاج إلى "مشروع تطوير".
قال ترامب بصراحة: "ستتولى الولايات المتحدة السيطرة على قطاع غزة، وسنقوم بعمل رائع هناك. سنمتلكها وسنتولى مسؤولية تفكيك القنابل غير المنفجرة والأسلحة الخطيرة".
بالنسبة لترامب، المشكلة ليست أكثر من أنقاض متناثرة فوق أرض تحتاج إلى مشروع تنموي، وهو يرى نفسه المطور المثالي لها.
ولإعادة إعمار غزة وفقًا لرؤيته، يجب عزلها عن سكانها، وهنا اقترح ترحيل الفلسطينيين إلى الدول المجاورة، مثل مصر والأردن.
وعد بلفور جديد بنسخة 2025
ما يقترحه ترامب ليس جديدًا، بل يكرر السردية الصهيونية القديمة التي ادعت أن فلسطين كانت "أرضًا بلا شعب لشعب بلا أرض".
فقد طُرد الفلسطينيون من أراضيهم عام 1948 لإفساح المجال لإنشاء إسرائيل، وها هو ترامب يقترح السيناريو نفسه مجددًا، ولكن هذه المرة في غزة.
إلا أن مبادرة ترامب هذه، إن جاز تسميتها بذلك، لن تمر بسهولة؛ فقد رفضتها معظم الدول الأوروبية، بما في ذلك بريطانيا وفرنسا، كما رفضتها الدول العربية، بما في ذلك الأردن ومصر، الدولتان اللتان من المفترض أن "تستوعبا" اللاجئين الغزيين وفقًا لخطة ترامب. وحتى روسيا والصين أعلنتا معارضتهما لهذا الطرح.
التبعات الكارثية لتصريحات ترامب
رغم أن تصريحات ترامب قد تبدو خيالية أو غير قابلة للتنفيذ، إلا أنها تترك أثرًا خطيرًا، خصوصًا أنها تصدر عن رئيس الولايات المتحدة.
فقد تشجع هذه التصريحات المستوطنين الصهاينة في الضفة الغربية والقدس الشرقية على الاستيلاء على مزيد من الأراضي، مطمئنين إلى أن البيت الأبيض يدعمهم بلا قيد أو شرط.
في الواقع، ترامب قد أعطى الضوء الأخضر لهم بالفعل، فعندما رفع العقوبات عن بعض المنظمات الاستيطانية في 22 يناير، كان ذلك بمثابة تشجيع رسمي لهم للاستمرار في نهب الأراضي الفلسطينية.
إعادة تعريف القضية الفلسطينية.. كمسألة إنسانية
من أخطر ما يروج له ترامب منذ ولايته الأولى هو تقديم القضية الفلسطينية على أنها ليست قضية وطنية تتعلق بالحرية والاستقلال، بل مجرد "مشكلة إنسانية" لشعب غير محظوظ يحتاج إلى مساعدات وإغاثة.
هذا الطرح يعيدنا إلى وعد بلفور عام 1917، عندما مُنحت أرض فلسطين للمهاجرين الصهاينة دون أي اعتبار لسكانها الأصليين.
ترامب ليس مجرد سياسي جاهل بالسياسة، بل هو زعيم متهور لديه القدرة على إحداث فوضى عارمة، سواء في الشرق الأوسط أو في العالم بأسره.
مقترحاته حول غزة ليست سوى تكرار لوعد بلفور في نسخة أكثر فتكًا، حيث لا يُكتفى بمصادرة الأرض، بل يُقترح تهجير سكانها قسرًا، ثم إعادة إعمارها دونهم.
وما يجعل الأمر أكثر خطورة هو أن هذه التصريحات تصدر عن رئيس غير مقيد بأي اعتبارات انتخابية، مما يجعله أكثر اندفاعًا في اتخاذ قرارات كارثية.