حجّ النبي- صلى الله عليه وسلم- حجةً واحدةً، أقام فيها شعائر الله- سبحانه وتعالى- وعظَّم حرماته، وألقى فيها خطبة الوداع التي صدع فيها بدينه، وبيَّن للناس مناسكهم، وبشّرهم ونذّرهم، وقد كان ذلك يوم عرفة في السنة العاشرة للهجرة، حيث بدأ بالمضي ويمشي ورائه الحجيج، وهو يقول ويُكرر عليهم: “أيها الناس خذوا عني مناسككم، فلعلكم لا تلقوني بعد عامكم هذا”. لقد طاف بالبيت كل مَن حضر هذه الخطبة، مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ووقف معه في عرفة، وفي المشعر الحرام في مزدلفة، وشاركه في الهدي وفي الجمار، وبات معه في مِنى، واستمع إليه وهو يخطب في الناس يُعلِّمهم مناسكهم ودينهم، ويحضهم على ما فيه فلاحهم، وينهاهم عمّا يضرهم؛ فلو كان الأمر بالاختيار لاختار كل المسلمين أن يحجوا معه- صلى الله عليه وسلم-؛ لكن ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. مضامين تربوية في خطبة الوداع وتضمنت خطبة الوداع التي ألقاها النبي- صلى الله عليه وسلم- على مسمع ومرأى من المسلمين، في ذلك المشهد العظيم مضامين تربوية عظيمة، رصدها الباحث إبراهيم الحقيل، فيما يلي: المضمون الأول: حرمة الدماء والأموال والأعراض، حيث قدّم النبي- صلى الله عليه وسلم- في خطبته تحريم الدماء والأعراض والأموال على أي أمر آخر، ولو كان هذا الأمر ترسيخ التوحيد (الذي كان في فِقرَة تالية)؛ لأن التوحيد لا يُقام ويرسخ رسوخًا كاملاً بلا أمن. وكرّر النبي- صلى الله عليه وسلم- حرمة الدماء والأموال مرة أخرى بقوله: “وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ… وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ…”، وهذا التكرار إما أن يكون تأكيدًا لِمَا سبق، وإما أن يكون إبطالًا لما يعتقدون حِلَّه أو استمرارهم عليه لكونه كان قبل النهي عنه. المضمون الثاني: ترسيخ التوحيد، والقضاء على كل مظهر من مظاهر الشرك، وذلك ظاهر في قول النبي- صلى الله عليه وسلم – “ألا كُلُّ شَيْءٍ من أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ”. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى-: “يدخل فيه كل ما كانوا عليه من العبادات والعادات مثل دعواهم يالِ فلان ويالِ فلان، ومثل أعيادهم وغير ذلك من أمورهم”. وأمر الجاهلية هو ما عارض الديانة الربانية، ولا يقتصر على ما كانت تعرفه العرب من عبادة الأوثان، أو ما تعتقده من أفكار خاطئة، أو ما ترتضيه من عادات وأعراف، بل يدخل في مصطلح (أمر الجاهلية) كل ما عارض الإسلام في كل زمان ومكان؛ لأن دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم- هي إلى آخر الزمان، وهي إلى الناس كافة. المضمون الثالث: امتثال الآمر لما يأمر به، وانتهاؤه عما ينهى عنه، والبَدء في ذلك بنفسه وأهل بيته وقرابته، فإن ذلك أدعى لقبول الناس لقوله، وهذا ظاهر في قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ من دِمَائِنَا دَمُ ابن رَبِيعَةَ بن الْحَارِثِ كان مُسْتَرْضِعاً في بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بن عبد الْمُطَّلِبِ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ”. وهذا واجب من واجبات الدعوة عظيم، وأدب من آدابها رفيع، وهو سلوك الأنبياء- عليهم السلام- فلم يُنقَل عن أحد منهم أنه خالف قوله فعله، ولو وقع ذلك منهم لعيَّرهم به المكذبون من أقوامهم، فلما لم يقع ذلك منهم عُلِم أن طريقة الأنبياء وأتباعهم من الدعاة هي موافقة العلم العمل، وإتباع القول الفعل؛ كما حكى الله- تعالى- عن شعيب- عليه السلام- أنه قال: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) [هود: 88]. المضمون الرابع: الوصية بالنساء، وبيان ما لهن وما عليهن في بيت الزوجية، وذلك في قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “فَاتَّقُوا الله في النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ الله وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غير مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ”. فهذه الوصية هي من البناء الاجتماعي المتين، والإصلاح الأسري المكين؛ ذلك أن صلاح الزوجين وأداء كلِّ واحد منهما للآخر حقَّه فيه صلاح الأسرة، وصلاح الأسرة يعود على المجتمع بأجمعه بالصلاح والاستقامة. المضمون الخامس: الوصية بالتمسك بكتاب الله- تعالى- والاعتصام به والتزامه، فالكتاب والسُّنة هما تَرِكة النبي- صلى الله عليه وسلم- لنا، وهما العلم الذي خلَّفه لأمته “وقد تَرَكْتُ فِيكُمْ ما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ الله… وهذه الوصية تتضمن التمسك بالسَّنة؛ لأن الأمر بالاعتصام بالكتاب يلزم منه الأمر بالاعتصام بالسُّنة.
المضمون السادس: إشهَاده- صلى الله عليه وسلم- الناس على بلاغِه لدين الله- تعالى- لهم، وهو أعظم إشهاد في التاريخ البشري، في أشرف زمان ومكان، استشهد عليه أفضل البشر، وشهد له أفضل أتباع نبي؛ فشهد له أهل الموقف كلهم وهم زهاء مئة ألف، ولا يُعرَف في التاريخ كله شهود يضاهون هذا العدد، وكانت شهادتهم على أهم القضايا وأعلاها، وهي دين الله- تعالى. دروس مستفادة من خطبة الوداع واشتملت خطبة الوداع على دروس مستفادة ذات قيمة عالية تضمنت شرائع الإسلام وأحكامه لو طبقها الناس في حياتهم لسعدوا في الدنيا والآخرة، منهما: إهدار تلك العادة السيئة التي كانت سائدة في الجاهلية وهي ما نسميها اليوم الأخذ بالثأر، حيث قضى الإسلام على الأحقاد كلها ودعا إلى ترك الثأر وحثّ على الصفح الجميل والتسامح الكريم عن كل ما كان في الجاهلية من دماء. حرم الرّبا قليله وكثيره بصورة قاطعة وأساليبه المتعددة فلا يأخذ الإنسان إلا رأس ماله فحسب. استقرار عبادة الله تعالى وحده في الأرض والتحذير من وساوس الشيطان ونزعاته وإغوائه للناس وذلك بتزيين بعض الأعمال السيئة لهم. وجوب أداء الأمانة كلها ولا فرق فيها بين بر وفاجر أو مسلم وكافر “أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك”. بيّن الإسلام حدود العلاقة بين الرجل وزوجته تنظيما للأسرة فجعل للرجل حقوقًا وعليه واجبات وكذلك المرأة، وشدد على الرجل بأن يعامل زوجته معاملة طيبة بالخير والمعروف وألا يستغل ضعفها فيسُومها الذل والهوان. اعتدال الزمن والمواقيت على أصولها الصحيحة التي خلق الله تعالى الكون عليها بعد أن كان الناس قد غيروا في الشهور وبدلوا فيها. التأكيد على عقيدة الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وبلقاء الله- عز وجل- ومحاسبته للناس على ما قدموا في حياتهم الدنيا من أعمال، قال تبارك تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)) (الزلزلة). “فَليُبلّغ الشَّاهدُ الغائبَ”، وفي هذا توجيهٌ نبويٌّ كريمٌ لكي تعمَّ الفائدة أكبر عددٍ ممكنٍ من النَّاس، فهذا من باب التعاون على الخير؛ ولأنَّ الغائب قد يكون أوعى للعلم، وأكثر فهماً له من الحاضر الذي سمع، وعلى الدُّعاة والعلماء عندما يُلْقُون درسا أو محاضرةً لإخوانهم أو لعامَّة النَّاس أن يقولوا للحاضرين: “فليبلّغ الحاضرُ منكم الغائبَ بما سمعه”. جلب انتباه الحاضر لما يقوله الخطيب، حيث يُستفاد من سؤال النَّبيّ- صلى الله عليه وسلم- الحاضرين عن اسم اليوم الذي هم فيه، وكذا عن الشَّهر، والبلد -وهم يعرفونها- ما يجلب انتباههم إلى ما قد عسى أن يريده بطرح هذه الأسئلة، فيصغون إليه إصغاءً تامَّاً، قال القرطبيُّ: “سؤال النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة: أي: عن اليوم، والشَّهر، والبلد، وسكوته بعد كلّ سؤال منها؛ كان لاستحضار فهومهم، وليُقبلوا عليه بكلّيَّتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه..”. إن خطبة الوداع قد شملت على مضامين تربوية ودروس وعبر غالية مَن أخذ بها نجا بنفسه وأهله في الدنيا والآخرة، حيث أكد النبي- صلى الله عليه وسلم- فيها على ثوابت الدين، وعلى ما يُجمع الناس ولا يفرقهم، كما شدد على عدم الاقتراب من حرمات الله، فكانت الخطبة جامعة مانعة لمَن أراد التأسي بمنهج الإسلام