إن من أعظم العبادات التي يتقرب بها المرء إلى ربه قضاء حوائج الناس والإحسان إليهم، وبخاصةً حوائج المساكين واللاجئين والفقراء، وهؤلاء احتياجهم أكبر، وواجبنا تجاههم أعظم حين يندر حولهم مَن يقدم لهم يد العون والرحمة. ولا شك أن حاجة الناس لبعضهم أمر لا بُد منه، حتى وإن كانت الدنيا تزيد فتنتها، وتكثر مشاغلها، وتتضاعف متطلباتها، وبركة الوقت لا تكاد توجد، والناس منشغلون في أعمالهم، غارقون في خضم هذه الدنيا، لكن في النهاية لا بديل عن التعاون وتقديم العون للغير. قضاء حوائج الناس في القرآن والسنة وأكد الله- عز وجل- في القرآن الكريم أن قضاء حوائج الناس من أبواب الفلاح، فأوصى بذلك في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج: 77]. وقضاء الحاجة للغير من أبواب التعاون على الخير، قال سبحانه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فِعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم والمحارم. وحثَّنا الله تعالى على السعي في قضاء الحوائج، لأن ذلك من وسائل التقرب إليه والحصول على الحسنات، قال الله تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المزمل: 20]. وجاءت السنة النبوية المطهرة، فأكدت أهمية السعي في قضاء الحوائج، حيث روى مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: بينما نحن في سفر مع النبي- صلى الله عليه وسلم-، إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يَصرِف بصرَه يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “مَن كان معه فضلُ ظهرٍ، فليَعُد به على مَن لا ظهر- (أي دابة)- له، ومن كان له فضل من زاد، فليَعُد به على مَن لا زاد له”. وروى ابن أبي الدنيا والطبراني عن ابن عمر- رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “أحب الأعمال إلى الله سرور تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد- (يعني مسجد المدينة)- شهرًا، ومن كف غضبه، ستر الله عورته، ومن كظم غيظه، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله عز وجل قلبه أمنًا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى أثبتها له، أثبت الله عز وجل قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلُّ العسل” (صحيح الجامع للألباني). وفي صحيح البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة. وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وغيرهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. وعن ابن عمر- رضي الله عنهما-: أن رجلاً جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد- يعني مسجد المدينة- شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه- ولو شاء أن يمضيه أمضاه- ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة- حتى يثبتها له- أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام. (الطبراني وغيره، وحسنه الألباني). وحذّر النبي- صلى الله عليه وسلم- من عدم قضاء الحوائج للناس مع الاستطاعة، فعن عمرو بن مرة الجهني- رضي الله عنه- أنه قال لمعاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنهما-: إني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخَلَّة والمسكنة، إلا أغلق الله أبواب السماء دون خَلَّته وحاجته ومسكنته”، فجعل معاوية رجلًا على حوائج الناس. (صحيح الترمذي).
وحرص صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتابعون من بعدهم على قضاء الحوائج للناس، فها هو سيدنا عبدالله بن عباس- رضي الله عنهما- يقول: “ثلاثة لا أستطيع أن أكافئهم، رجل بدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل سعى في قضاء حاجتي، والرابع لا أستطيع أن أكافئه، إنما يكافئه رب العالمين، وهو رجل نزلت به حاجة فبات ليله يفكر في من يقضي له حاجته، ثم لجأ إلي لأقضي له هذه الحاجة فلا أستطيع أن أكافئه”. ويقول الإمام الحسين- رضي الله عنه- “اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم فلا تردوا نعمة الله، فتتحول إلى غيركم”. وقال حكيم بن حزام- رضي الله عنه-: “ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة، إلا علمت أنها من المصائب التي أسأل الله الأجرَ عليها”، وقال عطاء بن أبي رباح- رحمه الله-: “تفقَّدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا نسوا فذكِّروهم”. وجاء رجل إلى الحسن بن سهل- رحمه الله- يستشفع به في حاجة فقضاها، فأقبل الرجل يشكره، فقال له الحسن بن سهل: “علامَ تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاةً كما أن للمال زكاةً؟!”، وقال محمد بن واسع- رحمه الله-: “ما رددت أحدًا عن حاجة أقدر على قضائها، ولو كان فيها ذَهاب مالي”. فضل قضاء حوائج الناس وتتعدد فضائل قضاء حوائج الناس والإحسان إليهم، ومن أبرزها: رضا الله عن العبد الذي يسعى في قضاء حاجة أخيه المسلم. سبب لزيادة الحسنات ومضاعفتها. وسيلة لتحقيق التألف بين قلوب المسلمين، وسبب لنشر المحبة بين الناس. تنفيذ لوصية الله لعباده، فهي من أعمال الخير التي ذكرها الله في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). اصطفاء من الله تعالى. باذل الخير من أفضل الناس وأحبهم إلى الله. سبيل تحقيق وحدة المجتمع المسلم، وجعله كالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا. نماذج تربوية وحفل التاريخ بنماذج تربوية عديدة عن قضاء حوائج الناس والإحسان إليهم، من ذلك ما ورد في قصة سيدنا موسى- عليه السلام- لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين، رفع الحجر عن البئر وسقى لهما حتى رويت أغنامهما. وتقول السيدة خديجة- رضي الله عنها- في وصف نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-: “إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق” (البخاري ومسلم). وعَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلاَنٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ، فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا” (أحمد ومسلم وأبو داود). وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَتِ الصَّلاَةُ تُقَامُ، فَيُكَلِّمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلَ فِي حَاجَةٍ تَكُونُ لَهُ، فَيَقُومُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَمَا يَزَالُ قَائِمًا يُكَلِّمُهُ، فَرُبَّمَا رَأَيْتُ بَعْضَ الْقَوْمِ لَيَنْعَسُ مِنْ طُولِ قِيَامِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ (أحمد والتِّرْمِذِي). وعن عبد الملك بن ميسرة عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ، فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ، حَتَّى حَضَرَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ، فَشَرِبَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهْوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ (أحمد والبُخَارِي والتِّرمِذي). إن قضاء حوائج الناس ومسايرة المستضعفين دليل على طيب المنبت، ونقاء الأصل، وصفاء القلب، وحسن السريرة، ولله أقوامٌ يختصهم بالنعم لمنافع العباد، وجزاء التفريجِ تفريجُ كربات وكشفُ غمومٍ في الآخرة. مصادر ومراجع: إسلام ويب: فضل السعي في قضاء حوائج الناس والإحسان إليهم. ابن كثير: تفسير ابن كثير 5/18. الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/51. ابن مفلح الحنبلي: الآداب الشرعية 2/176. ابن أبي الدنيا: قضاء الحوائج، ص 64. الغزالي: إحياء علوم الدين 2/175.